أن تنجوَ مرات كثيرة جسدًا لا روحًا
الساعة الآن الثالثة فجرًا، في هذه اللحظات إنني أواجه حربًا ثقيلة أثقل من أنْ يتم وصفها، لكنني سأحاول. الآن وأنا أُصارع ذكريات هذه الحرب في رأسي، لم تتوقف أصوات القصف التي لا تكفّ عن إبادتنا وقتلنا وقتل ما تبقى فينا، أريدُ البوحَ كثيرًا لكن البوحَ هنا لا يُجدي، إنّ أكثر ما أريده هو البكاء، وإنّه أيضًا لا يُجدي.
منذ اللحظة الأولى التي غادرتُ فيها بيتي وغزة غادرتني الحياة، إنّني أعنيها وأكثر؛ لقد غادرتني روحي عند أول نزوحٍ أُجبرنا عليه، حينها كنتُ أُلملم بعض أغراضي المُهمة التي سترافقني في رحلة النزوح، كنت أُلملم أشيائي وأفقدُ أجزاءً مني، وخطواتي وقتها كانت ثقيلة، لحظات كانت تشبه نزع الروح من الجسد.
وصلنا مكان النزوح الأول ثاني أيام هذه الحرب، وهنا بدأت حروبٌ أخرى، هنا أنت مُجبر على أن تصنع حياة لا تشبه حياتك القديمة بأي شكل من الأشكال، وسط حرب شرسة خطفت منا من نُحب ومَن نعرف ولا نعرف بلمح البصر، حربٌ تخطف منّا عُمرنا الذي كُنا قد بدأنا ريعانه، خطفت كُل ما نُحب ومَن نُحب، حربٌ قتلتنا وأسرفت في قتلنا مرات كثيرة.
الصباح في الحرب يشبه الليل، وليالي الحرب لا يشبهها شيء، هذه الليالي التي جعلت من الليل وحشًا مُرعبًا نخافهُ، والصباح لا يزورنا في الحروب.
أنا الآن في آخر مكان نزوح وصلتُ له بعد نجاتي أنا وعائلتي من الموت أكثر من مرّة، ولا أعتقد أنّه المكان الأخير، في كُلّ مرة نزحنا بها كنا قد نجونا لأنّها أقدار الله، نَجونا جسدًا لا روحًا، نجونا وأعني بذلك النجاة من الموت المُحتّم فقط، نجا جسدي وأُثقلت روحي بغصةٍ وقهرٍ وتعب لا ينتهي، كيف تُغادرني غصّة الفقد وغصّة البُعد عن بيتي، ومشاهد الشهداء وذويهم وصرخات الأُمهات ورجفات الأطفال ودموع الأطباء وبكاء الصحفيين وبكاؤنا جميعًا ودموعنا التي لا تتوقف، كيف ينسوا وكيف أنسى؟