خنساء جباليا: عمّتي إم أسامة
حدثتكم القصصُ التاريخية عن الخنساء ورثائها لأخيها صخر، ولأحدثنّكم أنا عن خنساء جباليا ورثائها لأبنائها وأحفادها.
منذ زمن بعيد وفي بداية اكتظاظ مخيم جباليا، في قلب المخيّم كان هنالك منزلٌ سطحه من الزينكو الرّقيق، سكنت عمتي إم أسامة ناجي في هذا المخيم الصّامد الصغير..عمتي هذه معروفةٌ بجلدها وصبرها؛ فهي أمّ الشهداء وأخت الشهداء وجدّة الشهداء!
عمتي التي استشهد ابنها وحبيبها [باسل ناجي] أثناء قيامه بعملية فدائية مُشرِّفة أسفر عنها قتلى في جيش العدو.
مرّت السنوات ولم تنسَ خنساء جباليا ابنها باسل يومًا، بل أحيت ذكراه بتسمية أحفادها باسمه؛ علّهم ينالوا من أسمائهم نصيب البسالة والشّجاعة والإقدام كما سبق وناله ابنها الحبيب، وفي هذا العام بعد مُضيّ سنوات على استشهاده، وبعد أيامٍ معدودات من بِدء معركة [طوفان الأقصى] وبالتحديد في الثالث والعشرين من أكتوبر ٢٠٢٣، استيقظتُ في منتصف الليل وإذ بي أرى أبي وأعمامي يفزون من فراشهم، ويسارعون بارتداء ملابسهم بوجوهٍ شاحبة تبدو عليها علامات الخوف، وسارعوا بالخروج من المنزل.
قمتُ وتساءلتُ: ما الذي يجري؟ ماذا حدث؟ إلى أين أنتم ذاهبون؟، لتفصح لي ابنة عمي عن الخبر الأليم: قد قُصف منزل رائد اللداوي، زوج إيمان ابنة عمتي إم أسامة، وهنا بدأت الأسئلة تصدّع القلب: هل هم في المنزل؟ من منهم على قيد الحياة؟ من منهم راح شهيدًا؟
طَرَحت مُخيلتي كل هذه الأسئلة في نفس الدقيقة!
كيف يحدث ذلك! إيمان ابنة عمتي كانت قد نزحت منذ أول يوم من بدء الحرب رفقة جميع أبنائها في منزل والدتها [عمتي إم أسامة]، وكانت الأمور على ما يرام! لم يمضِ يوم واحد على عودتها لمنزلها، لم يمضِ يوم واحد حتّى جاءت ليلة الأسى والحُزن لعمتي إم أسامة، لم تكن ابنة عمتي إيمان وحدها، بل كان يُرافقها أخيها أسامة وزوجته وأبنائه، أغارت عليهم طائرات الكيان الذليل أثناء نومهم ليغدو المنزل ردمًا وركامًا فوق رؤوسهم، وتستشهد إيمان ابنة عمتي وأخوها الأحبّ إلى قلبها أسامة بصحبة عدد من أولادهم، كما استشهد أخوهم باسل من قبلهم.
استشهدت إيمان رفقة زوجها وأولادها: فؤاد وفهد ومريم، مريم كانت صديقتي وقرينتي في العمر، مريم ذات الستة عشرَ ربيعًا حوّل الاحتلال عُمرها إلى خريف، وهي الآن في جنان الخلد رحمها الله، أمّا أسامة فقد استشهد برفقة شبله الصغير صُهيب، صُهيب الذي لا يكاد يخلو حديثُ أحدٍ منه، يقولون دومًا:"صهيب الجدع"، الفتى العبقريّ المحبوب، الشّبل البالغ من العمر سبع سنوات، كلّ هؤلاء الأحبّة الآن منعمّين بجوار الرّحمن.
بلغ عمتي إم أسامة خبر استشهاد أبنائها وأحفادها، فنزل عليها هذا الخبر كالصاعقة! فابنتها إيمان كانت المنفس الوحيد لها والمقربة منها بشكل عجيب، وابنها الكبير أسامة محبوبها وقرّة عينها! وبالطبع أحفادها الذين غابوا ليلة واحدة عن ناظرها ليمضوا في اليوم التالي في موكب الشهداء، هذا ليس بالأمر الهيّن، لقد فقدت فلذات كبدها، سيطر الحزن عليها وتربّص بقلبها، لكنها تلك المرأة المرابطة التي يتعجّب كلّ من يسمع قصّتها من صمودها وعزيمتها، صابرة محتسبة راضية!
مضت الأيام فسكن الألم قليلًا، وبعد أن اجتاح جنود الاحتلال مخيّم جباليا اضطرت عمّتي للنزوح برفقة أولادها وزوجاتهم والأحفاد إلى مستشفى [اليمن السعيد]، والذي كان يضمّ آلاف النازحين، لتتفاجأ بعد أيام بفقدان أثر حفيدها عُديّ! مشاعر الحزن والأسى عادت من جديد، ولكن بغصّة وحسرة أكبر، فعديّ الذي يبلغ من العُمر ثلاثة عشرَ ربيعًا، محبوب جدته الفتى الجدع..خرج ولم يعد!
مر اليوم الأول ثم الثاني والثالث والرابع والخامس، وعُدي ما زال مفقودًا، كانت روح أمّه معلقة به، خرجت المسكينة من دون وعي هي وسلفتها فاطمة [زوجةُ عمّ عدي] للبحث عنه تحت نيران رصاص القنّاص اللئيم المستمرّة،ولكن دون جدوى، فلم يجدوه أبدًا، وعادوا ليتلقّوا خبر استشهاد أحمد أيمن ناجي، حفيد عمّتي، خبر هزّ قلوبهم وأدماها، والتحق أحمد بشهداء العائلة.
في اليوم التالي وبعد تراجع آليات الاحتلال ذهبوا مجددًا للبحث عن عديّ دون كللٍ أو ملل، ليجدوا صدمة ثالثة لجدّته إم أسامة، بعد أن اكتشفوا أنّه استشهد، وروحه قد عانقت عنان السّماء، لم تنتهِ عمّتي بعد من رثاء أبنائها وأحفادها الذين ارتقوا في الثالث والعشرين من أكتوبر، فكيف ستقسّم حزنها الآن بين أولادها وأحفادها!
بعد أيامٍ بسيطة وعندما هدأت الأوضاع همّت عمتي وما تبقى من أحفادها وأبنائها بالخروج من مكان نزوحهم، متوجهين لمنزلها، استقرّوا وارتاحوا قليلًا لبضع أيام، لكن المحتلّ لم يشفِ غليله من مقاومي جباليا الشجعان، ليتوغّل مرةً أخرى ولتعود عمتي بصحبة أبنائها وأحفادها إلى مكان نزوحهم الأول: مستشفى [اليمن السعيد]، وبعد أيّام عاد الهدوء مجددًا، فقام حفيدها الباسِل بتفقّد أحوالها، باسل ابن الشهيدة إيمان، والذي سميّ باسم خاله الشّهيد تيّمنًا، لكنّ عمتي لم تكن تعلم أنّها لم تنتهِ بعد من رثائها لأحفادها، ولم تكن تعلم أنّ هذه هي المرة الأخيرة التي ستتأمل فيها ملامح وجه حفيدها الباسِل، وأنّ الحديث الذي دار بينهما سيكون هو الأخير قبل أن يلتحق الباسل بأمّه شهيدًا!
بعد أن تفقّد باسل أحوال جدّته خرج من المكان تاركًا إياه ومتوجهًا إلى مدرسة شادية أبو غزالة ليحضر بعض أشيائه، وإذ بطلقات القنّاص الغادرة تخترق جبينه من الشقّ الأيمن ليرتقي شهيدًا على الفور. الباسِل الشهيد المُبتسم، والذي عُرف بخلقِه السّامي وشخصيته الهادئة، الباسل صاحب المُحيّا الأبيض المنير في لحظة الاستشهاد، كان هو الصّدمة الرابعة لجدّته المكلومة، ويا لصبرها ويا لحُسن أجرها عند الله.
تُذهلني هذه المرأة التي احتلّتها كلّ مشاعر الأسى والفقدان، لكنّها جابهتها لتُثبتَ للجميعِ رضاها بقدر الله، ما أعظمها وما أعظم خالقها الذي وهبها كلّ هذا الصبر والسلوان، ما أعظم من اصطفاها ليهبها قوّة التحمل بعد التعب والمكابدة. أثابَ الله عمتي أم أسامة خير الجزاء على ما شهدته في أيام الحرب التعيسة هذه، يا ربّ فليكن كلّ عملها في ميزان حسناتها، وأن تكرمها برؤية أقمارها الشهداء في الجنان بإذنك، ورحم الله الشهداء جميعهم وأكرم منازلهم، ولا نحتسب هذا الأسى عند الله إلا جهاد في سبيله، وسنستمر في صراعنا مع العدو الذليل مهما حدث، والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.