0%

لوز ورمان



منذ 8 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 8 دقيقة

في كل مرة أُشاهد نشرات الأخبار، أرى ملامح غزة، ملامح فلسطين:
وحيدة
حزينة
خائفة
كما كانت دائمًا، ولا يستعصي علي القول أنها كانت دائمًا لوحدها، لم يكن لها كتف كي تتكئ عليه سوى نفسها، أعذروني لأنني أقولها بكلّ برود، هكذا خرجت الكلمات مني دون صعوبة، يا له من شيءٍ مؤسف!

 

تربطني علاقة أزلية مع مريد البرغوثي ورضوى ومحمود وغسّان، وحتى يافا وعكّا وحيفا، لكن علاقتي في غزة علاقة مختلفة..علاقة نادرة، علاقة نظر من بعيد وحبٌ من طرف، يؤرقني تذكّر أننا كنا -وما زلنا- كعلاقة حب من طرف، غزة لا تُشبه إلا نفسها ولا تُحبّ إلا من يسكن تحتها، ولشدة حُبِها تحتضن من كان هناك احتضانًا أبديًّا.

 

أخجل أن أقول أنني كُنتُ أُحب غزة وأنا لم أزرها يومًا إلا في قصائدها وطعم زيتونها، وأنني هِمتُ بها هيامًا غريبًا، وقد رغبتُ لليالٍ طويلة أن تحتضنني لو من بعيد، كنت أجهل هذا الحب تمامًا، أجهل مصدره ولعلي كُنت دقيقة في وصف ذلك الحب غير المفهوم وصفًا شاعريًّا، يتخلله الشك وكذلك اليقين.

 

أتذكّر فرحتي حينما أكتشفت أنّ لدينا صديقة اسمها إسراء تدرُس معنا، كانت من نابلس لكنّها لم تزرها قط، بل كانت تصفها لي عن جدّتها بلسانها الرقيق ذو اللكنة البسيطة، تُخبر عن اللوز والخوخ والرمان وحتى المشمش الذي تزرعه، ما بقي من حديقة منزلهم في نابلس كان مجرد بذور ولكنّها بذور تستعصي على القلع، لا يمكنك محو ذلك بسهولة وإن طال الزمان، كذلك حبّي لغزة كان كبذرة جدة إسراء، مشمش و لوز و رمان، مزروعٌ هنا في صدري يستعصي على القلع أو النّسيان.

 

كُنت أُدرك ألم الاحتلال لسنوات وما زلت، لا أعيشه لكنني أُدرك بخيبة أمل أنّه موجود، حكايات غزة والمشاهد منها قد عشتُ مرارتها طوال عمري من بعيد، دون أن أتلمسها سوى بالنظر، كُنت أُدرك الحكايات عنها، كانت غائبة تمامًا عن المشهد، لا نشاهد ما يحدث هناك سوى عن طريق نشرات الأخبار، وكانت ناقصة، ناقصة تمامًا، فلا يكتمل مشهد على التلفزيون إلا وجزء منه قد غاب، أو خاتمته غير مفهومة إطلاقًا، وكُنت أغضب لأنني لا أفهم.

 

كان لمريد أثرًا مهمًّا في حياتي، ارتباطي به كان ارتباطًا عميقًا وثيقًا، كان يكتب عني، عن حياتي، عن غربتي، عن الضياع لمراتٍ عديدة، كان يكتب كلّ شيء بدقة، شعرت ذات مرة أنّه كان يعرفني، ولشدّة خوفي منه كتبت عنه بدوري، لن يقرأها بالطّبع، لكن وددتُ لو لمرّة أن يعرف أنني أعرفهُ معرفةً -كتابية- يستحيل عليه أن يهرب منها، ثمُ أدركت عمق الجرح الذي سكنه، ألم الغُربة التي سرقت منه أيامه و أمانه، سرقت منه ذلك السواد الذي عاش في شعره لسنين حتى ابيضّ في أواخره، وعن الحبّ الذي يكنُه لرضوى، كان أمانه الوحيد الذي سُلِبَ منه رغمًا عنه، كان طريدًا بين البُلدان مُرتحلًا إلى المنفى، أتذكر ذات مرةٍ قرأت ما كتبه وشعرتُ كما لو أنّ هذه الحروف كانت حروفي:

 

"وأنا بلاد الرُوح تبني لي كهوفًا من سرائرها
بلادُ الله تنكر خطوتي فيها
بلاد الموت تفتح لي حدودًا ..دون أختامٍ
وتستعصي على عيني بلادي"

 

يظهر مشهدًا لي قد عشتُه مرات في حديث مريد، كان يقول أنّ الجدار الذي أتكئ عليه اليوم، فالغد سيتحرك، سأرحل عن هذا المكان، لا سقف أعيش تحته يكون لي، كان لا يعرف معنى أن يُعلّق لوحة له ولعائلته على جدار منزله، لأنّه جدار مؤقت يتغيّر دائمًا، ولا محتويات مكتبه، وحتى تلك النبتة التي عاش عمرًا يسقيها كانت ترتحل معه أينما ولّى وجهه، إلّا مرّة قرر أنّه سيعطيها لمن يعتني بها. كلّ شيءٍ كان مؤقتًا عنده، أدقّ تفصيلةٍ حوله كانت مؤقتة، يحزنني أنّه مات وهو لا يعرف حقًّا متى العودة!


الوسوم

شارك


x