0%

غزاوي مغترب: سيرة احتباس


لا زنانات فوق رأسي الآن، وهذه جريمة كافية لإدانتي أمام ذاتي، أسمعها فقط عندما يكرمني الله بسماع صوت أمي البعيد المرهق. صوت أمي تغير، أصبح خليطًا من خروشة شبكات الاتصالات الضعيفة وضجيج الزنانات التي تحرث السماء فوقها


الوقت المقدر للقراءة: 11 دقيقة

اسمي نور الدين، غزاوي مغترب، وهذا أصعب نص أكتبه في حياتي. ولدت وكبرت في مخيم المغازي (اسمه يتكرر في الأخبار الآن) وسافرت للدراسة قبل سنوات. عشت الحروب داخل غزة وخارجها وأعرف الحرب بوجهين مختلفين. إن الكتابة كمغترب اليوم بينما عائلتي كلها (الأسماء مهمة الآن: أبو النور، أم النور، صلاح الدين، عماد الدين، بهاء الدين، حسام الدين، يارا، تالا، لانا، حيفا) ينزحون من موت إلى موت وأنا في قارة أخرى حرفيًا تكاد تفجر قلبي. أبذل جهدًا كبيرًا للحفاظ على عقلي أمام كل هذه الأهوال التي تذهب العقل، يتورم قلبي ويكاد ينفجر قهرًا. أدور كل دقيقتين على مواقع الأخبار كفراشة تلاحق نارها باستسلام، وبأصابع مرتجفة وعيون خائفة أتفحص مرارًا كل كلمة وصورة، كل اسم؛ هنا قلب أحرقه القتلة، هناك عمر سرقه منا القتلة. أشعر أني تمثال تخشب أمام الشاشات منذ أشهر، طبعًا تمثال بقلب متورم يكاد ينفجر، تمثال يخشى أن يموت قهرًا بالمعنى الحرفي.

 

لأشهر وأنا أعيش عملية إجبارية لإعادة التعرف على جغرافيا مدينتي بالمجازر، ظننت أنني نسيتها، لكنني كنت أكذب على نفسي كالعادة. أحدق في شاشة هاتفي الصغيرة التي تحولت إلى مستطيلٍ زجاجي متجبر يربطني بحيث يخفق القلب ولا يصل، أحدق في شاشة تعرض جغرافيا الإبادة. هذه خدمة مجانية أخرى يقدمها لنا العالم بكرم بينما يشاهد إبادتنا، درس جغرافيا إجباري بالدم، بدمنا ولحمنا. أحاول جاهدًا ألَّا أضيع في زحام الكلمات المتدافعة والذكريات المنبعثة، إيقاع حياتي توقف، يدي على هاتفي قبل أن أغسل وجهي صباحًا وفي الطريق إلى كل مكان وأثناء حديثي مع الآخرين وقبل النوم المتأخر وبعد فزعي من النوم ليلًا، أصبح هاتفي جزءًا من جسدي، جرحًا نازفًا يسرق من عينيَّ النوم وأسهر عليه بجولاتِ تفقدٍ قلقة. أتفقد كمحموم مواقع الأخبار وحسابات العائلة والأصدقاء، وبعد دقائق خوف وخجل أغرق في سيل الصور والفيديوهات القادمة من هناك، صور شهداء، فيديوهات بيوت مقصوفة، المدينة لم تعد نفسها، أين غزة يا عالم؟

 

استهداف، غارة، ركام، انتشال، شهداء وإصابات، قنص، نسف ... أخاف، أحاول التخيل، أتذكر كثيرًا وألعن أكثر. لن أكذب على أحد، بالأحرى لن أكذب على نفسي، علاقة الغزازوة، كل الغزازوة، مع غزة معقدة، بل وربما غريبة. في الأحوال العادية هي علاقة التنافس المتوازن بين الحب والكره، ولا تخلو عند البعض من التطرف فقد تصل إلى حد العشق أو الحقد. ملكة التناقضات والمستحيلات هذه الغزة، وعن نفسي لطالما كان قلبي لعوبًا، يحبها حينًا ويكرهها حينًا في حلقة مفرغة تنتهي بأن أسامحها في كل مرة، وتسامحني في كل مرة. لكن الشيء الوحيد الذي يكاد يتفق عليه كل غزاوي أينما كان هي أن العلاقة مع غزة هي علاقة "احتباس"، أي أنك وإن خرجت منها جغرافيًا، فإنها وبكل بساطة ترفض أن تخرج منك. بتعبير آخر، ورطة حتى الموت، أنت وإن خرجت من "الحبس"، فإنك تحمل حبسك أينما حللت، في حالة احتباس أبدية كأن جسدك خارج الحبس وروحك أو أجزاء منها على الأقل لا تزال تفضل الجلوس فيه. وكمحتبس تحمل حبسك معك في كل خطوة، تحضره إلى كل جلسة، ويظهر على قلبك كندبة أبدية تخاف أن تظهرها للآخرين وتتلمسها لاإراديًا كلما سرحت قليلًا.

 

هل هذه لعنة؟ قد تكون كذلك، لكنني أفضل تسميتها ورطة. تحاصر غزة المحاصرة غزازوتها إلى الأبد، تجرهم في كل مكان معها ويجرونها معهم، ترفض أن تطلقهم في حال سبيلهم وإن أطلقتهم ظلت أرواحهم مأسورة في أقفاصها. وهذه غزة، قد تتركها، تظن لوهلة أنك قد "نجوت"، لكنها لا تتركك، تسرق مفاتيح قلبك وتسكنه عنوة، تلاحقك في كل لحظاتك، بل وتقرر بسطوة طريقة تعاملك حتى مع أصوات الطائرات العابرة في سماوات الآخرين. وكلما ظننت بأنك تجاوزتها تفاجئك بعادات لم تتخيل أنك تملكها وكأنها تسخر منك من بعيد، ببساطة إنها تتقمصك، ترتدي عمرك وتركض به بلا مبالاة أو استئذان، إنها احتباس لا مهرب منه ويجب التعايش معه. غَزَّةٌ في القلب هذه الغزة، لا ضمادات يمكن أن توقف نزيف الجرح الذي تتركه، كحكم بالعذاب الأبدي أينما كان الجسد في جغرافيا العالم. لا أعرف كيف أشرح بالضبط لكن ما أهذي به هنا ليس محاولة لشرح هذه العلاقة المعقدة مع غزة لكم، أنا أحاول شرحها لنفسي، أود أن أقنع نفسي بالكتابة بأني لم أجن بعد!

 

لا زنانات فوق رأسي الآن، وهذه جريمة كافية لإدانتي أمام ذاتي، أسمعها فقط عندما يكرمني الله بسماع صوت أمي البعيد المرهق. صوت أمي تغير، أصبح خليطًا من خروشة شبكات الاتصالات الضعيفة وضجيج الزنانات التي تحرث السماء فوقها، سرق القتلة مني صوت أمي الحنون أيضًا، أريد استعادة صوتها الطبيعي، أريد أمي! من بعيد ينهش قلبي القلق كما ينهش كل ضباع الكون لحم غزة، من بعيد يركض قلبي بلا توقف بين الحسرة والقهر، من بعيد أكاد أجن من صراعي مع سيناريوهات المستقبل المجهول في كل لحظة. فمي مكمم وقلبي ينزف، وهذه غزة، صاخبة كيوم القيامة وحزينة كبيت عزاء، قاسية كصخرة وحنونة كأم، مُحاصَرة بالموت والموت وتحاصرنا بالمجهول والذاكرة، وها نحن مغتربوها وضحاياها الأبديون/ المؤجلون، دُماها المحشوة بالعجز والمعاقبة بالجغرافيا يلهو بنا العالم وتلهو بنا غزة.


الوسوم

شارك


x