0%

عن الجامعة الإسلامية بغزة بعد تدميرها



منذ 7 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 10 دقيقة

التاسع من ديسمبر، حيث استطعت الوصول لذلك الصرح، وصلت للجامعة الإسلامية، حيث نشأت وترعرعت نفسي وكينونتي، حيث عرفت نفسي وتعرفت على كل تلك القامات العلمية، وصلت لذلك الصرح الذي سُويّ بالأرض، حجارته وحدها التي سوّيت بالأرض لكن قَدرَه شامخٌ في قلبي، دخلت المكان من بوابته، رفضت الدخول إليه من أي مكان آخر، من بعد أن أزيلت كل جدرانها وجرّفت الطرقات من حولها وداخلها، حَييّت غرفة الأمن الفارغة القابعة في المدخل الرئيسي للبوابة الشمالية، رأيتها غرفة مبعثرة هي  وكل محتوياتها، التفت للناحية الأخرى.

رأيت مبنى معهد التنمية المجتمعية، كان لا يزال مكانه يقف أمام ذلك العدوان الغاشم بكل ثبات، رغم طوابقه التي دمرت ونسفت بفعل الصواريخ الحاقدة، وقفت وتذكرت حينها تلك المحاضرات المسائية، وتلك النقاشات الطويلة، تذكرت فناجين القهوة التي تنبعث رائحتها من المبنى في أيدي طلابها ومحاضريها، تذكرت الدورات التدريبية في الفصول الصيفية مع عظماء الجامعة الإسلامية، حاولت الاقتراب من ذلك المكان للوصول إلى المبنى لكنني لم أستطع، كان الركام في كل مكان! كانت كتب العقيدة والتفسير مبعثرة هنا وهناك، تلك الكتب التي كانت تصطف على أرفف الطابق الثالث، طابق تحفيظ القرآن الكريم، كان يتناوب عليها الطلاب والمحاضرين، كان ذلك المعهد يحتمي بتلاوات المحفظين والحافظين لكتاب الله، حاولت أن أرفعها وأضعها بعيداً بعيداً جداً عن كل هذا الدمار.

اقتربت أكثر فوجدت شهادات تقدير لخريجي الحاضنة التي تُخرّج الشباب الكفؤ لهذا المجتمع وتؤهلهم لسوق العمل، كانت حاضنة الأعمال والتكنولوجيا تخرّج الغايات والطموحات المشرّفة، وتهديها شهادات التقدير، أمسكت بها ووضعتها جانباً وأنا على أملٍ أن يعود أصحابها ويُقدَّروا بهذه الشهادات، حاولت أن أقترب أكثر  وأكثر، فوجدت دموعي تنهمر، لم أستطع أن أوقفها، حاولت.. لقد حاولت جاهدة أن أقف ثابتة صامدة مثل هذا المبنى، لكني لم أستطع، انهمرت الدموع ولم تتوقف، سمعت صوت قلبي ينكسر ويهشم يتساقط وينهمر من بين أضلعي، يستجدي كل ذكرى وضحكة ونقاش، كلها انهمرت وسقطت، لم أستطع أن أضعها جانباً كما غيرها من الأشياء، ابتعدت عن المبنى خجلاً منه، خجلاً من قوته وثباته الذي لم تزعزعه صواريخ الحقد، هو ثابت وأنا أنكسر أمام شموخه.

ابتعدت ووصلت إلى مسجد الجامعة الإسلامية، وقفت وتلوت عليه أدعية الحفظ واستودعته هو ومأذنته للرحمن الذي طالما صدحت بآذانه وتكبيراته، ابتعدت أكثر ووصلت إلى تلك البقعة التي اعتدت الجلوس فيها، حاولت أن أطولها أكثر بناظري، أن أتمعنها أكثر بعينايّ، أن أحفظها عن ظهر قلب، كانت لا تزال تلك الشجرة وأوراقها الخضراء في ذات المكان، كانت الورود لا تزال مزهرة ونسمات الشتاء تداعبها، أحسست بأنها تقول لي: "ابقي هنا معنا، لا تحزني ولا تيأسي، نحن هنا وسنبقى هنا!" حينها وصل مسامعي أحدهم وهو يقول لي: "ماذا تفعلين هنا؟ لا شيء ينفعك هنا!" نظرت إليه والدموع المنهمرة مني تروي له ماذا أفعل هناك، فرد عليّه من معه يقول: "اتركها، اتركها تبكي وترثي جامعتها" ثم حاورني قائلاً: "لا تطيلي المكوث في المكان، قناصة الاحتلال لا تبعد عنا شيء، والكواد كابتر ستبدأ بالتحليق هنا بعد قليل."

أومأت برأسي ومسحت دموعي بمنديل واقتربت من سلة المهملات ووضعته فيها، فابتسم وقال لي: "أنت طالبة هنا؟" أجبته بعينايّ "أجل"، قال لي: " كل هذا الدمار ولا زلت تحافظين على نظافتها!!" ثم ذهب مسرعاً قبل أن يصل مسامعي بقية حديثه، ذهب في اتجاه القناصة والجيش الذي حذرني منه قبل ثوانٍ، ذهب باتجاهها مقبلاً غير مدبر! حينها عاودت النظر لمبنى الإدارة الذي يحتضن كل شيء من حوله، هو محترق من الداخل، لكنه يأبى إلا أن يقف بجدرانه وأعمدته يحتضن مسيرة علمية ترفرف راياتها منذ عقود مضت، يقف بقوة رغم أنه احترق من الداخل واعتصر ألماً.

عاودت السير للخروج من المكان، خرجت وألقيت التحية والسلام وأذكار الحفظ على كل ما بقيّ من ذلك المكان.. خرجت وخرج قلبي ينازعني للبقاء هناك، للمكوث هناك، خرج ليحفظ ويحافظ على ما تبقى من ذكرياته في ذلك المكان..
لم أكمل تراتيل وداعي له وإذ بتلك الطائرة المسيّرة تباغت المكان، وتبدأ بإطلاق الرصاصات، فخرجت.. خرجت مسرعة من هناك، خرجت بجسدي فقط لا غير وتركت كل ما بداخلي هناك، تركت قلبي وروحي هناك، واستشهدوا على الأغلب هناك برصاصات الكواد كابتر.

سلامٌ عليك أيها المكان، سلامٌ على روحي التي تركتها في ذلك المكان، سلامٌ على قلبي الذي أبى الخروج من ذلك المكان..
السلام عليكم، فإن السلام كله منكم.

 

  • تم قصف الجامعة الإسلامية في التاسع من أكتوبر للعام الماضي، وتم تدمير وتجريف ما تبقى منها في نهاية شهر يناير للعام الحالي 2024، أثناء المناورة العسكرية البرية الثانية لمدينة غرب غزة.

الوسوم

شارك


x