0%

ذاكرة حامضة


أعصرُ ذاكرتي مثل ليمونة حامضة، أمضغ ما تبقى من عقلي، أتنقل من موتٍ إلى موت، وأخفي حزني تحت ملابسي مثل امرأة قديمة تكابر.


منذ 12 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 4 دقيقة

 

 

أعصرُ ذاكرتي مثل ليمونة حامضة، أمضغ ما تبقى من عقلي، أتنقل من موتٍ إلى موت، وأخفي حزني تحت ملابسي مثل امرأة قديمة تكابر.

من يعطي غزة دمه لتحيا؟

من يروي ظمأ المدينة العائمة على دم أبنائها؟

أتيمم من صور الشهداء، وأصلي عليهم صلاة أخيرة إلى مقبرة جماعية لمجهولي الهوية، لا صور، لا ملصقات، لإنجازات مهيبة، ولا وقت للتقارير الصحفية التي تسرد فيها أم الشهيد خصاله، إنها تموت معه، ويموت الصحفي أيضا.

ذاكرتي حامضة، تختلط فيها الصور والمشاهد التي عرّت أكتوبر الخريفي الحالم، عرّت كل شعوب الأرض أيضا، أكتوبر أسقط كل شيء عن عورات العالم، أما عوراتنا فهي تحت الركام، يسترها الله ومسعفونا، وأجساد الآباء.

ذاكرتي اليومية حامضة، نسيت فيها شكل بيتي ويومياتي، الأيام متكدسة في التقويم مثل القنابل، أكاد أنفجر فيها، أو تنفجر فيّ.

أغرق في الغضب حتى آخذ شكله، فيسمع الجيران صوت زمجرتي التي تتصاعد مثل الدخان، رغم أني امرأة تكره الأصوات العالية، فصرت أنا صوتا عاليا.

 أرتب ذاكرتي المهاجرة في أدراجي الصغيرة، وفي علب المطبخ البلاستيكية، في علب الشامبو ومسحوق الغسيل، كيف يمكن أن أطوي ما تبقى من تفاصيل حياتي في خزانة أطفالي، وكيف ألملمها سريعا لأدسها في حقيبة النزوح، كيف تركت آلة القهوة عرضة للغبار والصوت، كيف تركنا الشبابيك مغلقة!

الذاكرة الحامضة تلسعني، فالأيام تتمدد على أرض المشفى مثل الشهداء، الأيام تقضي نحبها أيضا، وترحل معنا إلى الأبدية، الأيام عُدتنا في الحرب، نطويها مثل الجرابات ندسها في بعضها البعض كي لا تضيع، نحسبها على أصابعنا، ونحن نرى ضياع العمر.

استشهد رشدي وقبله رغد وقبلهم حمد، الموت يسحبهم للأعلى حتى وإن كانوا تحت الأنقاض، الموت يفتح فمه الكبير ولا يغلقه، إنه يبتلع البيوت بمن فيها.

    • نشرت أولا في قناة حديث الحياة والحرب لـ هبة الأغا (هنا)


الوسوم

شارك


x