0%

عن القهر وفلسطينييه



الوقت المقدر للقراءة: 8 دقيقة

يولد الفلسطيني في هذا العالم وخلفه تاريخ طويل من القهر، ليعيش حاضرًا مغمسًا بالقهر، ويورث من يليه مستقبلًا لا يشك الكثيرون في امتلائه بالقهر. قهر فردي، قهر جمعي، قهر بكل الأشكال والألوان والنكهات لكن ميزته المشتركة أنه قهر صهيوني خسيس. 100 (بالحروف: مئة) سنة من تجرع القهر المادي والمعنوي، 100 سنة من المجازر والتشريد، 100 سنة من الخذلان ومواجهة العالم كل العالم وحيدين، 100 سنة من التدلي على حبل مشنقة عالمية دون أن نستسلم للفناء، 100 سنة من الانكسار ومعاودة النهوض وكأنما أصابتنا لعنة عنقاء محكوم عليها -بكل بؤس ممكن- بأن تعيش أبدية الانكسار والنهوض. لسنا إلا "عكاريت" مدمنين على المأساة الإجبارية، لم نتقن بعد الفناء الذي يريده العالم لنا، هل تساءل الفلسطيني يومًا لماذا ولد فلسطينيًا؟ ربما كل يوم، هل لعن حظه؟ بالغالب!

 

أكاد أجزم أن الكثيرين منا تمنوا في لحظة ما لو أنهم ولدوا في مكان آخر أو بهوية أخرى، لسنا طماعين، لم نرد حياة من النخب الأول، لربما من النخب الوسط أو المتواضع، حياة بمشاكل "طبيعية" أو على الأقل "عادية" يمكن أن نحفظ فيها إنسانيتنا الهشة. أنا لليوم أستغرب من قدرة الطفل الفلسطيني على تجرع كل نكبات الماضي بينما يعيش نكبات الحاضر ويواجه مخاوف نكبات المستقبل. تربينا على القهر، كبرنا على القهر، وربما -بالغالب- نموت على القهر، أتذكر حينما تعرفت على النكبة والنكسة والانتفاضة صغيرًا، على حرب بيروت وانكسارات الشتات المختلفة مراهقًا، والله لليوم تقضم قلبي غصة القهر على كل انكسار سابق ولو لم أعرف طعمه حقًا. وها نحن في غزة وبعد أن عشنا نكبات مصغرة لسنوات، نعيش الآن نكبة مكبرة لا تلوح نهايتها في الأفق بعد.

 

قلبونا مفتتة كرمل متناثر على ساحل غزة، هذا مجاز إيجابي جدًا، مجاز خداع جدًا، فالحقيقة أن قلوبنا مفتتة كركام منزل قصفه القتلة على رؤوس أصحابه. نحن ركام يمشي، أشلاء شاءت الأقدار أنها لا زالت متصلة، قهر خام على هيئة بشر. ما اسمك؟ اسمي قهر غزاوي، وما اسمك أنت؟ مجزرة مؤجلة! إن كان هناك عنوان لحياتنا في هذه اللحظة -وربما في كل لحظة- فهو القهر لأجل مدينتا، ولأجل ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. يصب هذا العالم الظالم القهر في أفواهنا عنوةً كل لحظة بينما يشاهد إبادتنا من نازيي العصر بالبث الحي والمباشر دون أي جهد حقيقي لإيقاف المحرقة، بل ومع التهليل سرًا وعلانيةً لها. والآن وبينما يحاضرنا العالم عن حقوق الإنسان والحريات والقيم والمساعدات الإنسانية تستمر عجلة موتنا بالدوران بلا اكتراث، موت بكل الصور التي يمكن تخيلها ليس بالصواريخ والقنابل والقذائف فقط، بل وحتى بالخوف، وبالصدمة، وبالقلق، وربما بعقدة الناجي.

 

منذ صرخته الأولى في هذه الدنيا يخبئ هذا العالم للفلسطيني القهر في كل زاوية، يجرعه المر على كل منعطف، الفلسطيني يحمل القهر معه كشامة خفية لا يراها ولكن يتحسسها على جسده منذ الولادة، شامة نشاز نكرهها بكل ما نملك من مشاعر لكننا لا نستطيع الخلاص منها. محكوم علينا بالقهر لأجل أنفسنا وأهلنا وشعبنا، وحتى لأجل هذا العالم البائس. عالمنا ظالم، يحكمه مجرمون (وبعض المجرمات) ممن يرتدون ربطات العنق (والتنانير) ونحن يا الله معشر المقهورين لا يبدو أننا قد نشفى من لعنة القهر الأبدي، ذنبا الأول والأخير أننا لم نحلم إلا بعالم أقل حقارة فقط، لسنا طماعين بالطبع، لم نبالغ بالحلم إلى درجة تمني عالم أكثر عدالة، فهذا كثير على دنيا المجرمين هذه!


الوسوم

شارك


x