0%

موجة أخيرة لغزة



منذ 10 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 5 دقيقة

منذ وقت طويل لم أكتب لغزة، كانت تسكن في الغياب أكثر، وحين عدتُ إليها، تشبعت منها، تشبعت من الحضور المبالغ فيه، لكنني كلما أذهب للكتابة عن أي مدينة أخرى، أجدني أعود إلى غزة.

الصبية الحنطية التي تقف على شاطئ البحر، العصبية دائماً، المجنونة أكثر أوقاتها، العاشقة في لحظات الرحيل. إنها المكابرة حتى حين يعترف لها العشاق، ويرسمون على رملها الساخن قلوباً وهمية، ورسائل يرمونها في عرض البحر.

إنكِ تبعثرين كل شيء، تبعثرين حقائبنا المدرسية، ونحن نطوي المسافات بين مدرستنا وبينك، تبعثرين كتبنا ودفاترنا وأقلام الرصاص الحادة، تأكلين بقايا شطائرنا اليابسة، ثم تصنعين فوق أسطح بيوتنا أرجوحة نلهو بها، فنطير في السماء ولا نعود. 

كيف تتجاوزين كل تلك الأمنيات التي يكتبها الحالمون؟ هل قرأت الرسائل التي كتبها أصحاب الدكاكين الصغيرة المنتشرة بين بيوتنا كالنجوم الأرضية؟

هل سمعتِ عن امرأة حلمت بعجّانة بدلا من يديها المهترئتين، وهي تصنع الخبز لصغارها؟

هل كنتِ تعرفين أن الفتى الجميل قد التزم النظر إلى الحائط المشقق كل هذه السنين؟

أنا لا أفهم كلام السياسيين، ولا الشيوخ، ولا لجان التحكيم. إنني أرى فيكِ ما أراه في فنجان قهوتي الرابع والثلاثين، الذي شربته على شرفتك المعرشة بالورد، والمطلة على الشاطئ الكسول، حين كنّا نصطاد الأمل ذات مرة.

أنا يا ريحانتي، يا أرجوحتي، يا صبّارتي، يا حقيبة أسراري، لا أحب إلا خشونة يديكِ، وبشرتك المتعبة، وأقدامك المشققة. أنتِ حين يطلع الصبح تكونين عصفورتي، وشمسي، وأريجي، واشتياق المسافات العابر.

في المرة الأخيرة، رأيتكِ ترتعشين من الخوف، على مقاهي الرصيف المبللة بالأمواج. كنتِ تشربين الشاي وعيونك على أحدهم وهو يرمي نفسه في البحر. هل تشعرين بالذنب؟ هل خفتِ على بقايانا وبقاياهم؟ سقطت من يدك كباية الشاي، وبكيتِ طول الليل، أعرف أنكِ شعرت بالعجز كثيراً.

أعترف لكِ كم نحن أنانيون، وصارمون، ومحافظون، وخشنون، وممثلون جيدون. أعترف لكِ كم نحن ساديون، وعابرون، ولكننا يا سيدتي حالمون، وعشّاق في تفاصيلنا اليومية.

أنتِ حبيبتي، وثروتي الكبيرة، أنتِ مخدتي المشجّرة، وأوراقي البيضاء، أنتِ صغاري وألعابهم العابثة، أنتِ مساحيق التجميل التي أخفي فيها وجعي، أنتِ دوامي اليومي، وأطباقي المعدة بسرعة الريح، أنت اشتياقي وجنوني، وأنتِ مروحتي، وباب بيتي، وأنت غطاء رأسي، وحقيبتي.

    • نص سابق لهبة الأغا عن غزة (هنا)


الوسوم

شارك


x