0%

صوتي المغترب لأجل غزة



منذ 9 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 6 دقيقة

أحيانا أغمض عينيَّ قليلاً وأرى مدينتنا تصحو، تفردُ جناحيَّ الوقت وتحلّقُ فوقنا حيث نترقبُ كلنا عبورها منذ أيامٍ مضت كسنين، منذ نزف أول طفل في وحدته ولم يغنّ له أحد ولم يقبّل وجهه الدامي أحد. يترقب الآباء الذين فقدوا أبناءهم، تترقب الأمهات المكلومات، يترقب الأطفال الذين صاروا يتامى فجأةً، ويترقب النازحون الذين لا زالوا يتساءلون عن حدود الوقت والأحلام خارج مخيم النزوح، يترقب الذين صحوا فجأةً وعلى صدورهم يجثم قهر عصيٌ على النسيان، يترقب الحالمون ببحرهم و بيتهم، بأن تفتح أيديهم المرتجفة مجدداً زجاج الشرفات و نوافذ غرفٍ حزينةٍ تطل على لاشيء وقد كانت كل شيء.

أحياناً اتخيل غزة حقاً تلك العنقاء في ساحة المدينة، ذلك التمثال القديم وقد دبّت فيه الروح وقد تمددت تلك الروح وانسكبت في البنيان والأشجار ومقابر الشهداء حياةً وضوءاً فتعود الحياة وتعود الضحكات، يعود حتى بؤس الباعة المتجولين و تذمّر سائقي السيارات، يعود استعجال الذاهبين إلى دوامهم، الراكضين إلى أحلامهم، تعود أصوات المآذن تصدح بأدعية نعرفها وتعرف دربها لقلوبنا الموجوعة جيداً، وتعود الحياة في الأجنّة الذين ماتوا قبل أن يولدوا.. يعود الضوء يتخلل الأشجار التي تعبث الريح بأغصانها و يعود صراخ الأطفال وهم يلعبون لأجل غد بعيدٍ يلوح لهم أزرق مغطى بسحبٍ ناعمةٍ بيضاء كخيالاتهم قبل أن تصبح مليئة بالدخان والسواد فجأة.

أحياناً اغمض عيناي بعد نوبة بكاء وأرى روحي تسير في شارع بيتنا وأفتح الباب لأجد وجه والدي وأمي، ثم أجد أخي وقد اشترى من بائع العطور الذي قتله قناصة الاحتلال عطرا مزيفاً برائحة الياسمين، أرى من نافذتي ابن الجيران الذي يقضي يومه كله في النظر إلى المارة والذي استشهد أيضاً في الحرب و كان الابن الوحيد لصديقة أمي.ثم أنظر عبر الشارع الممتد فأبصر مدارس الاونروا وفيها تلاميذ يرددون النشيد الوطني حيث لا وجود للنازحين والحزانى كما الآن وقد عادوا جميعهم لبيوتهم رغم ثقل الذكريات ليبدؤوا حياتهم من جديد.

إن الخيط الذي يقيني من الجنون الآن هو رحلة الروح تلك حيث ينكسر الزمن في يديّ ويسيل دمي فداءً للمدينة حيث لا حقيقة سوى الماضي.. سوى كيف كانت مُطلّةً على البحر و الأقحوان وقلوب أبنائها المشتاقين.

لا حقيقة سوى غزة الآن وأبداً. تلك المدينة الجميلة العصية على الرحيل من ذكرانا، العصية على أن تتحول إلى حاضرٍ من دمار ودموع وفراق ولا يليق بها سوى الخلود والجمال وإن كان في عالم الأحلام البعيد الذي ترحل إليه قلوبنا وعيوننا كل يوم.


الوسوم

شارك


x