0%

عائدٌ إلى حُضن أصدقائي وغزّة



منذ 9 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 13 دقيقة

في غزّة كُل شيء مُباح
في غزة لا وقت لتكون حزيناً أو غاضباً أو حتى صامتاً.
وقتك الذي تتحكم فيه إسرائيل يقتضي منك الحركة الخفيفة بين ما تبقى من أشجار النخل وريح العاصفة بحثاً عن قضمة خُبز وحفنة ماء، الهروب تحت السماء خَفي وخفيف، لماذا؟
- حتّى لا تصير فُتاتاّ وترابا

كل الأسئلة برأسي عن مدينتي "دير البلح" ولا أجوبة لها، كانت تفوح منها رائحة البحر الأزرق ورائحة زهر اللوز وصوت فيروز الصباحي، الآن هي فريسة لخصم جائع مُفترس، مدينتي الصغيرة كانت زهرة برية قِبلتها البحر وزُقاقِها مُشبع برذاذ موج البحر الأبيض، لا أجوبة تليق بهذا الخراب المُتكور داخلنا، أمام المرايا أبكي مدينتي والشباب الحلوين وبحرها العالي، أُدقق في صوت أُمي وهي تقول لي: قتلوا كُل الذكريات في ديرنا، قتلوا حتّى الشوارع.

أبكيها وأنا بعيد عنّها، لكن هذا البُعد يُشبه بُعد يُوسف عن راحيل، تهمس المدينة بخفة إليّ: ترجوني أن لا أنساها ولا أُطيل هذا الغياب.

في المدينة الموعودة تكتشف أنّ الحمام طفح من الحرب، تتسَكّع في بُحيرة من الصرخات والأنين، الحياة مُشتتة كالندى فوق العُشب، يحشرنا الموت في حفرة صغيرة في هذا الكون ونسقط فيها، طفح الحمام من الحرب في هذه المدينة، وهاجرت عصافير الربيع عنّا، هكذا حكايتنا مُسلسل من الذكريات، الذاكرة ليست دقيقة أبداً، الفقد يُغيرها ويُبدّل ما فيها، نُرمِمها، نحذفها، نُبقيها، نخترع ذكريات، كُلّ ذكرى تقود إلى الأُخرى، في نهاية المَطاف تقف على شرفة غُرفتك، وتضع رأسك على رأس حمامة تُودعك وتغسل ذكرياتك في فضاء أزرق هَش، مصيرك فردي، كالحمامة هذه، تُودّع المدينة وحدها، تُهاجر وحدها، تموت وحدها، وتُعانقك وحدها، وتسأل نفسك: ما الفرق بيني وبين الحمامة؟

محمد صديقي كان يعيش حياته الطبيعية قبل عِدة ساعات، يذهب للجامعة تارةً وتارةً على بحر "الزهرة" في السادسة صباحاً، كان محمد يُدندن كُل صباح أُغنيتنا المُفضلة لجورج وسوف:
الّي تعبنا سنين في هواه
عامل نفسو ميعرفناش
بعد العمر ده كله معاه
وفتنا وقال راجع ولا جاش"

بهجة المُخيم فاتنا للأبد، بعد اليوم لن يصلني شيء مِنّه، قتلته آلة الاحتلال الإسرائيلية، لن يحكي لي عن آخر مباراة كانت لنادي برشلونة، لن يتقاسم مع البحر آخر سيجارة، هذا الغياب لا يُجدي يا محمد، هل تخرج يا محمد من هذه الصورة، وترتمي على صدري وتهمس بأُذني: اشتقتلك يا عمّي، وين غيبتك عنّي.

بهجة المُخيم محمد، في كُل مرة نلتقي فيها لا يكف عن الضحك ويُضحكنا معه، كُنا ندخل في هستيريا من الضحك، وكان يراوغ الشيطان، ويسلب منّه الفرح لنا، كان عنده القدرة على أن يُضحكنا حتى بأسوأ الحالات، كان محمد يملك كاريزما خاصة في سردية القصص، كُنا نشكو عن حالنا في غزة كُل يوم وكُل ليلة، كان محمد من المُنتمين لياسر عرفات بشكل يليق بدمه النازف الآن في المُخيم، قبل سفري قبل أربع سنوات كنت في حالة من الاكتئاب مزرية، كان محمد يظل واقفاً على رأسي حتّى أضحك ويأخذني من عالم السوداوية، ويقول لي كلمته المشهورة: أنت طول عمرك مكتئب وهتموت مكتئب، بس بحبك.

حبيت أسمع جورج وسوف من محمد، كان محمد مهوساً بجورج، حتى نقل هذه العدوة إليّ بخفة، كان جورج يحضن شَملنا وأشواقنا البعيدة، في مرة كُنا نسمع أغنية لجورج وسوف: الناس طلعوا لقمرهم وقمرنا نزّلنا.

يُعلق محمد على هذه الكوبليه من الأغنية تحت سماء زرقاء في شتاء هش في المُخيم: أبو وديع أكبر دماغ سلطنة في العالم،بتعرف شغله حتّى أكبر من سلطنة عُمان شخصياً، هيو قلب قوانين الفيزياء والطبيعة بكل بساطة سابق أمريكيا، أمريكيا طلعت القمر قبله بس جورح القمر نزل الو، لأنو هاد أبو وديع.

هذه التفاصيل توجعني يا محمد، هذا الغياب أكبر من الطفل الّذي في صدري، أليس أنت من كُنت تقول لي: مؤمن أنت قلبك طفل، يعني حساس كثير وبتعيط على دمعة طفل.

كُنت تعرف هذا الشعور، وهذا القلب وأصررت على الغياب، ذاب قلبي على غيابك، أراك بكل الوجوه يا أحلى شاب في المُخيم.
محمد أكثر أصدقائي تعلقاً بصوت جورج وسوف ونادي برشلونة، كان يفضل سماع جورج معي على البحر الأبيض في غزّة، ترّبى في عائلة عريقة في المُخيم، عائلة مهوسة بالعمل الصباحي الباكر، كانت علاقة مُحمد بوالده غريبة، كان والده صديقه المقرب، وكانت أُمه الحزينة مُقربة منّا، في كُل مرة أزور محمد في البيت كان تأتي تطمئن عليَّ وتقول لمحمد: هو هادا صاحبك يلي بدو يصير دكتور؟، كان محمد يكتظ بالضحك بشكل هستيري، يُحب الحياة على نحو لائق، كُنا نهرب من المدرسة كُلّ يوم معاً، كُنا نُطرد من المدرسة معاً تحت تهمة "محمد ومؤمن مخربين الفصل الدراسي"، كان محمد رفيق الهروب ورفيق الدراسة ورفيق المُشاكسة.

هذه الصورة الأخيرة التي تجمعنا بمحمد، التقطتها قبل أربع سنوات حين غادرت غزّة، كنا نتسامر معاً، ونشوي السمك البحري، كان صوت طائرات الاستطلاع تُحاول أن تُنغص عليّنا الحياة في اللقاء الأخير، سهرنا حتى الرابعة فجراّ في أرضنا الصغيرة بالقرب من البحر الأبيض، أذكر كيف أرتمي بين يديّ وقال لي: بدك تسيبني يا كبيرنا، وتطلع والله هنشتاقلك كتير .

كان محمد لا يعترف بالمقاهي والجلسات الاجتماعية إلّا في تواجدي، كان الهواء البارد يُناغش شعره كما فتاة يداعبها حبيبها في شوارع روما، محمد حاول السفر إلى إسطنبول، كان مغرماً في هذه المدينة ومهوس بشوارعها، الآن محمد سافر إلى مكان أبعد من إسطنبول وأقرب إلى المطار، سافر بعيداً على مكان مجهول الهُوية كما كُنا أنا وهُو مجهولو الهوية في غزة.

محمد أكثر صلابة وشراسة وجمال، محمد لمن لا يعرفه كان الحنون بيننا، كان كما أُمهاتنا علينا، حتّى بعد سفري كان دوما يقول لي: مؤمن ناقصك اشي أنت بس تؤمر، قُلي بس يا كبير.
كُنا دوماً نبحث معاً عن المُزاح في أي حوار، نبحث عن رأس شيشة على البحر، ونتسلطن مع صوت جورج وسوف، كان مثلي مهوساً بالهدوء والرواق.

محمد حبيبي أعرف أنّك عانيت بمرارة في حياتك، أعرّف جيداً أنّك حاولت النجاة، لكن قوانين الطبيعة كانت أقوى منك، تركتني وحيداً للذكرى يا محمد، تركتني الآن أجلس على بحر الإسكندرية، وأبكيك وأَلف روحك بين يديّ، ينتابني الفضول يا محمد في سؤال، كيف تغلّب الموت عليك؟، هل هذه كانت نقطة ضعفك التي نسيتها ولم تخبرني بها؟


الوسوم

شارك


x