0%

أهذا هو الحزن يا غزة؟



منذ 9 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 7 دقيقة

كنتُ أتابع العدوان على غزة ككل ليلةٍ من ليالي العدوان المُظلمة، فوجدت صورًا من قلب خيام النازحين أحدها تحمل عبارة "أهذا هو الحزن؟ وأنا الذي لسنواتٍ طويلة كنت أعتقد أني أعرف".

 

تأملتها دقائق، فخلصتُ إلى أنّي لم أعرف معنى الحزن قبل أن تبدأ حرب الإبادة الجماعية بحق أهل غزة.
كنت أظنّ الحزن هو أن تتخاصم مع والدتك، تشاكسها فتقاطعك نصف ساعة بالأكثر، ثمّ تعود لتضمّك بين ذراعيها الحانيتين، ليس أن تفقدها في قصف عشوائيّ لعينٍ للأبد.

ظننت أنّ الحزن هو أن تخسر أمام صديقك في لعبة شطرنجٍ مثلاً، وليس أن تلملم أشلاءه في كيسٍ داكن أسود، وأن لا تستطيع أن تلمس جبهته، وتقبلّها في وداعٍ أخير.. لأنّه لم يعد هنالك جسد، بل أشلاء متناثرة!
حتّى أنّك لن تجدَ جثّة هامدة ولا قبرًا يضمّ جسده لتبكي عليه.
كنت أظنّ الحزن غيمة سوداء تخيّمُ فوق المدينة، تمطرُ بكثافة فتحزنك لاضطرارك أن تلغي موعدًا ما.. وليس أن تغرق الخيمة التي يقطنُ فيها عشرةُ أفرادٍ على الأقلّ، فيرجف الرضيع من البرد.. حتّى الموت.

أمّا المسنُّ، فتتخابط ركبتاه وتكاد أضلاعه تُنتشل من مكانها من فرط برودة المكان وقسوة الزمان.
كنت أظنّ أنّ وصفَ جمال الأمّ لطفلها هو للمباهاة أمام الأهل والجيران، فتقول "ابني ابيضاني وحلو وشعره كيرلي" وليس وصف أمٍّ مكلومة لابنها الفقيد الذي لم يتجاوز السبع سنوات من عمره، فتنهار باكية لعلّه نجا.. لكنه لم ينجُ.

الحزن..
كنت أظنه شعوري عندما انتقلنا إلى منزلٍ جديد، فوجدت نفسي في مكانٍ جديد بعيدة عن منزلي، وغرفتي وأشيائي المُفضلة، لم أكن أعرف أن الحزن هو التهجير قسرًا إلى المجهول.
كنت أظن الحزن هو عندما تعطل هاتفي، وفقدت رقم جدتي، وكل أفراد عائلتي، فلم أستطع أن اطمأن ليلتها على أحد،لكنني أدركت معناه في الليلة الظلماء التي انقطعت بها غزة عن العالم أجمع.
الحزن! هل شعرت به لأني طُردت من المحاضرة لتأخري دقائق معدودة؟ ماذا عمن انقطع لليوم رقم ٩٠، أي ما يعدلُ ثلاثة شهور عن مدرسته وجامعته بالكامل بسبب العُدوان؟

 

كنتُ أظنه عندما اضطررنا للخروج ليلاً لإحضار أدوية جدتي التي تعاني مرض السكري؛ لأنه انتهى وللصدفة لم ننتبه، حزنا لأننا اضطرنا أن ندخل أكثر من شارع لنجد صيدليةً مفتوحة، لكني أدركت معناه عندما قرأتُ أن المرضى يموتون من نقصٍ بالأدوية، ولا يوجد من يبيعها أصلا. ماذا عن مرضى الكلى؟ وكل من يعاني أمراضا مزمنة؟

 

كنت أظنه حزن الفتاة التي أرادت شراء لعبةٍ ما، فلم تستجب لها والدتها؛ لأنها لم تعد إلى المنزل مبكرًا قبل أن تنهي لعبها في الشارع، وليس الطفل الذي لم يعد اصلا بعد أن ذهب يجلب الطعام لأهله في وسط طابورٍ مُزدحم، لكنه وفي طريق عودته، وبعد طابورٍ استمرَ لساعات انفجر المكان، وبقي في مكانه بين الجثث المترامية.

 

كنت أظن الحزن هو الطفل الذي تأخر في مشيه قليلاً، فقلقت أمه وفي اليوم التالي أخذته إلى الطبيب.. ليطمئنها أن كل شيء على ما يرام وأنه ربما سيتأخر قليلاً بعد.
لكن، ماذا عن الطفل الذي بُترت قدميه قبل أن يتعلم المّشي؟

 

كنت أظنّ الحزن في البعد عن العائلة عندما تضطرّ لتركهم لإنجاز عمل أو دراسة ما، ثمّ تعود لتجدهم في انتظارك، كنت أظنّ أنّ الشوق هنا هو الحزن، لم أكن أعرف أنّ الحزن هو أن تبقى الناجي الوحيد من عائلتك بعد نجاتك من مجزرة كانت وفاتك بها محتومة لولا قدرُ الله لك، أتساءل عن الحزن هنا،
كيف سيعود الناجي الوحيد إلى بيته الخالي، من سيكون بانتظار عودته بشوق؟


الوسوم

شارك


x