0%

رسالة متخيلة من فلسطينية في غزة



منذ 9 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 8 دقيقة

فلسطينية أنا، أقيم في غزة. قبل السابع من أكتوبر، لم تصلني رسائل العرب للاطمئنان على حالي ومتابعة يومياتي لسنوات تحت الحصار. لم يسألوني كيف آكل وأشرب، كيف نلت شهادتي، عن صعوبة البحث عن عمل… هل اخترت مجال تخصصي رغبة مني أم لأنه الخيارُ الوحيدُ المتاح؟ هل تمنيت العيش في بلد آخر؟ هل رغبت يومًا في السفر، أم بقيت في القطاع باختياري؟ من أكون؟ ماذا أحب وما لا أطيق؟ هل لي رأي في السياسة؟ هل أحب زيارة عمان؟ هل لدي تعلق بالقاهرة رغم أني لم أزرها بعد؟ هل نسيت قصصًا مؤلمة سمعتها عن بيروت ومع ذلك أود لو أستطيع دخول مطارها من دون عراقيل؟

 

فلسطينية أنا، لست على خارطة معارفهم، مع أني عفرت كثيرًا لأكون مرئية.
تمسكت بفايسبوك، تاركة لغيري شتم تحكم "مارك" وأعوانه بأعناق المستخدمين… لم أرحل عندما طقَّ "ماسك" عنق العصفور الأزرق. حزنت ولم أغادره، فعنده، صوتي موجود لذاته. تمسكت بمساحتي على إنستغرام، كتمني مرارًا، لكنه ظل فرصتي ليراني العالم رغم رغبة كثيرين بحبسي، هناك، في النسيان.

 

منذ السابع من أكتوبر، انقضوا عليَّ جشعين سائلين الطريدة عن اللحم والدماء، كي ينشِّطوا حساباتهم المترهلة. يسألون عن الأخبار والمحتوى الذي يبقي الأدرينالين في دمهم عاليًا. توجب عليَّ بعد مضي أسابيع، أن أذكِّرهم، هم قبل الأوروبيين، بأن لي اسمًا. نادوني به، اسألوا عني؟ هل أنا ابنة أو والدة أو حبيبة؟ هل أنا ساخطة على أشكال السلطة كافة، هل ما زلت في مرحلة التمرد أم طحنت صعاب الحياة عنفواني؟

 

سخَّرتُ ما بقي من طاقتي الخائرة من الهلع والتفجع، لأخبر العالم عني، عما يجري لي، لأهلي، ولأبناء حارتي. ظننت بعد أسابيع من الحرب، ومن قتلنا ألف مرة قبل فتح المعبر بقرار دولي لم يصدر بعد، أن التداول الهائل لما يصدر عنا، عن موتنا اليومي، عن تجويعنا وسحق إنسانيتنا، وأن الدفق من المنشورات المكثفة المتعاطفة المتضامنة، أن كل هذا من غير حساب أو مقابل.
تهيأ لي، أن من يدعم المقاومة يفعل ذلك لأنها ضد المحتل، وأن المتضامن معي، لم يأخذ موقفه هذا لانتمائي الحزبي أو السياسي، بل لأن الحرب تشن عليَّ بلا قيد أخلاقي أو شرعة قانونية. لم يخطر في بالي، أنهم سيتعاملون معي كموظفة في "شركة المجد الضائع للأمة العربية القابضة"، فيما أنا أُقتل. ولم أكن لأتوقع أن ينتظروا مني اصطفافًا مع خطهم السياسي، رغم أنهم في بلادهم آمنون، بلا مساءلة، لا في الحرب ولا بعدها.

 

فهمت لاحقًا، أن المطلوب مني هو الإتيان بمحتوى يلائم حساسية العرب الذين قرروا بحركة من إبهامهم على شاشة الهاتف المحمول، تحديد الصورة الملائمة للبطولات، للانتصارات، لشد عصب الانتفاخ بمجد لم يذرفوا جهدًا فيه. منهم من يريد مادة تسويقية، وآخرون يريدون تكريس صورة الجبابرة. صبرٌ بلا حدود، صمودٌ بالأشلاء، وبأطفال نجوا من قصف رماهم عند ناصية الشارع وعيونهم جاحظة من الصدمة والجوع. منهم من أراد صورًا لا تنضب من الدماء، ومن الأجساد المبتورة، وأخرى تذرف لها الدموع، وترفع لها الصلوات، لذلك وجَب عليَّ، أنا ورفقتي اتخاذُ وضعية الضحية اللائقة. كيف جعلوا منا سِلعةً لإشباع رأسِمال نرجسيتهم؟

 

يريدون الاحتفاء بحملنا وولادة أطفالنا في الحرب، وعلينا أن نمنحهم صورة نقية عن ذلك، لا تفضح ما نعانيه كنساء بعد معجزة المولود الجديد في غياب الحاجيات الأساسية.

 

لم أكن أعرف أن غضبة كبيرة ستثار، وأن عنفوان متابعي الكنبة في العواصم العربية سينهار، لو أخبرتهم عن شعوري بالأسى حيال شعري الذي خسرت من أطرافه.

 

ما هذا التضامن معي، ما هذا شرط ألا أقول تعبت! هدني الفقد، أكل الجوع من روحي.
يريدون مني ألا أقول إن رائحة الموت لا تسكر مثل النشوة بموتي و"صورة انتصار" من بعيد. يريدونني على مقاسهم، لكني على مقاسي.

 

فلسطينية من غزة.

 

https://soundcloud.com/rosairelb/i9dwxu9vq4e8

 

  • هذا النص متخيل على لسان فلسطينية من غزة، كتبته الإعلامية نجلاء أبو مرعي وينشر في موقع "حكايا غزة" بالاتفاق معها

الوسوم

شارك


x