0%

ذكريات غزّة المحطمة



منذ 9 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 25 دقيقة

حقائبٌ للسفر، ملابسٌ قليلة، بيجامة وغياراتٌ داخليّة، وسُترة ثقيلة واحدة تتناسبُ مع الجوّ البارد. نحن الآن في كانون الثاني، ذروةُ فصل الشتاء، الفصل الأحب إلى قلبي. ساعاتٌ تفصلني عن موعد الانطلاق إلى معبر رفح، هذه أوّل رحلة سفرٍ في حياتي. اشتريتُ بعض الحاجيّات التي لم تكُن تُهمني في داخلي كثيرًا، اشتريتها كي أقضي التزامنًا بأن يكون معي كلّ ما أحتاجه في حال طالت الطريق واحتجتُ شيئًا. بعض حبات معجّنات "المولتو"، بسكويت، زجاجات مياه، بعض التمر، وأشياء أخرى قالت زوجتي إنها تصلُح كي أكلها سريعًا في حال جُعت. الطريق طويل جدًا، قالت متمنيةً أن تكون هيّنة وبسيطة عليّ.

 

أخذتُ حاسوبي المحمول الشخصي، باور بانك، سماعات الإيربودس، شاحن الهاتف. أشياء أساسيّة وطارئة لرحلة كهذه. تأخرتُ في تجهيز الحقائب، فحتى إيجاد حقيبة مناسبة لم يكُن سهلًا، لا أحد يُسافر هُنا، قليلًا ما يُسافر الناس، فهذا الأمر يُصبح من المستحيلات أو من الأُمنيات، كما كان بالنسبة لي لسنواتٍ طويلة. ها هو يتحقّق الآن.

 

المشهد الثاني

 

الطريق إلى مدينة رفح حيث المعبر الشهير الفاصل بين قطاع غزّة وجمهورية مصر، دفعتُ مائتيْ وخمسين دولارًا كي أتجاوز هذا المعبر، وهو مبلغٌ إضافي على التكاليف الأخرى من تأشيرات الدخول وحجوزات الطيران والرسوم الأخرى الرسميّة. كنتُ أعلم أنها رحلة طويلة للغاية، فحتى أصل وجهتي سأحتاج إلى يوميْن، أو يومٌ ونصف على الأقلّ. وجهتي هي إسطنبول.

 

المعبر هو عنوان الانتظار، والخروج من غزّة انتظارٌ طويل. انتظرتُ طويلًا كي أتخذ خطوةَ تحقيق الحُلم والسفر. وفي المعبر، انتظرتُ طويلًا في الصالة الفلسطينيّة، الآلاف مكدسين ينتظرون دورهم، هذا ليس سفرًا عاديًا بين بلدين، هذا خروجٌ من السجن، بالنسبة لمن هُم على المعبر. انتظرت في الصالة المصرية أيضًا لأكثر من عشر ساعات، انتظرتُ في باص الترحيلات، انتظرتُ في غرفة الترحيلات، انتظرتُ في كلّ مكان. إنها تُشبه رحلة الحياة، فهي انتظارٌ طويلٌ طويل.

 

المشهد الثالث

 

ضباطٌ مصريون، جنود وعسكريون في كلّ مكان. انزل من الباص، دور العدّ، يتأكد الضابط من أن العدد الموجود في الباص هو نفسه، لا أحد خرج، ولا أحد دخل. هذه إجراءاتٌ أمنية، فالشباب وحدهم ممنوعون من دخول مصر دون تنسيقٍ أمني مُسبق، وأنا الآن في باص "الترحيلات"، الباص الشهير الذي يُعاني منه الشبان الفلسطينيون.

 

هذه المرة الأولى التي أرى فيها أمامي شخصًا غير فلسطيني، أو شخصًا مصريًا، يتحدث بلهجتهم الجميلة. شاهدتُها كثيرًا في الأفلام، تعوّدنا عليها حتى ظننا أننا نستطيع تحدّثها. يقفُ إلى جانبي، أو أمامي، ياه، إنه إنسانٌ من لحمٍ ودم، من بلدٍ آخر، من مكانٍ غير هذا السجن. أنا الآن في أرضٍ أُخرى، قدمي تطأ تُرابًا غير التراب الذي مضيتُ في المشي عليه طوال تسعةٍ وعشرين عامًا. مُعجزة.

 

كلّ شيء يبدو غريبًا. حتى رحلة الترحيلات الصعبة، وجلسة المعبر السيئة المليئة بضباط الأمن الذين يصرخون على الناس، كانت مختلفة، غريبة، وعجيبة. سائقو الباصات، العاملون في المعبر، الصرّاف الذي رأى مائة جنيه في يدي، قديمة ومُهترئة، تعجّب منها، واعتبرها من التُراث. حتى الطريق المُعتم، في سيناء، شبه الصحراء العميق الذي يحُدُ غزّة، تبدو هذه الطريق التي لم أراها بسبب غياب الضوء، غريبة وجميلة، تبدو مُثيرة، فمُجرّد أنني في أرضٍ أُخرى، يُثير فيَّ الغرابة والحماس لشيءٍ ما.

 

المشهد الرابع

 

حطَ الباص في مكانٍ مُضيء وواسع، كُتب على مدخله "مطار القاهرة الدولي"، كانت هذه إحدى بوابات الدخول إلى المطار. فورًا، تذكّرت الأفلام العديدة والمُسلسلات التي شاهدتُ فيها المطارات، أفلامًا مصريّة جاءت بهذه الصورة. إنني الآن أخرجُ من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة، لكن من يدري، رُبما خرجتُ من عالمي إلى عالم الأفلام؟ رُبما هذا مُجرد حُلم، أو مشهدٍ آخر، في فيلم، قد يكون غير حقيقيّ.

 

في المطار، الساعة الثانية مُنتصف الليل، عددٌ قليل من الناس، أجانب، وفدٌ آسيوي يبدو كأنه قادمٍ من رحلةٍ دينيّة، رجال أمن، وقاعة لشركات الاتصالات مُغلقة، أسألُ أحدهم: في انترنت؟ فأنا بعد رحلةٍ طويلة دامت عشر ساعاتٍ، بلا اتصالات ولا تواصل، أحتاجُ أن أطمئن أهلي عليّ، أن أقول لهم وصلتُ المطار. 

 

أصواتُ النداءات في المطار تطلُ فجأةً، سيدةٌ بصوتٍ ناعم تتحدّث، هُناك رحلة من أسيوط إلى مدينةٍ أخرى لشركة مصر للطيران، أُجّلت لسوء الأحوال الجويّة، بقي هذا الإعلان يُذاع لأكثر من ساعتيْن. وضعونا ولأننا فلسطينيين، وشُبّان، بلا عائلات، في صالة انتظارٍ كبيرة، يُمنع علينا الخروج منها، هذه غُرفة الترحيلات، لكنها غرفةٌ جيّدة وممتازة بعض الشيء، فهناك ما هو أسوأ. افترشتُ كرسيًا كبيرًا، مدّدتُ جسدي عليه، أمّنتُ أغراضي، وحاولت النوم. لكني لا أنام، فأنا أفكّر في كلّ شيء، في أنني في مطار، أنني أنتظرُ رحلتي، أنتظرُ الطيران إلى بلدٍ آخر. إنها لحظاتٌ سعيدة حقًا!

 

المشهد الخامس

 

دقائقُ قليلة وتُقلع الطائرة، أنا في طابور انتظارٍ طويل لدخولها، تركنا ضابطُ الأمن بعد أن تمّمَ إجراءاتنا بنفسه، لكوننا "مُرحّلين"، لأننا وللسبب نفسه شبانٌ فلسطينيين، تأكد من حجوزات طيراننا، وأدخلنا إلى السوق الحُرة. أنتم الآن أحرار، الآن نحنُ مثل كل المسافرين، لنا الحقّ في كلّ شيء، الآن نحنُ خارج القبضة الأمنية. خارج الرقابة.

 

ولأننا فلسطينيين، فنحنُ دائمًا ما نُساندُ بعضنا. خرج معي من غرفة الترحيلات قبل موعد الطائرة بساعتيْن، شُبانٌ آخرين، كانت طائرتهم ووجهتُهم معي، واحدة، ترافقنا وتحدثنا، جُبنا السوق سويًا، نحنُ "غلابى المسافرين"، شبانٌ نخوضُ التجربة لأوّل مرة، نستعجبُ من العالم معًا، ونسخرٌ منه تارةً أخرى معًا، ونتحدثُ عن النساء اللواتي نُشاهدهنَ أول مرةٍ في حياتنا معًا، نقفُ خلف زُجاج المطار، ننظرُ إلى الطائرات التي تصطفُ أمامنا، هل هُوَ حُلم؟

 

كيف سأركب الطائرة؟ أُريد أن أجلس إلى جانب الشباك. دائمًا ما كانت هذه المعضلة التي تواجهُ كل طفلٍ يجلسُ في السيارة، إنه يتوقُ إلى الحرية، حرية أن لا يبقى حبيسًا بين كُرسيين، أن يرى العالم، يتأمّل السماء، والناس، والحياة من خلف النافذة. أنا الآن طفلٌ أريد أن أجلس إلى جانب الشباك في الطائرة. هُناك مشهدٌ أرغب أن أراه، طالما تمنيتُ رؤيته، سألت: كيف سأجلس إلى جانب الشباك؟ قالوا إنه كان من المفترض أن أطلب هذا الأمر عند إتمام إجراءات حجز تذكرة الدخول النهائيّة. إذن، كيف سيكون نصيبي في ذلك؟ هل سأطلبُ من أحدهم أن يُبدل كرسيه معي؟ كيف سأقولُ له أنني بلغتُ تسعةً وعشرين عامًا، دون أن أسافر مرةً واحدة، كيف أقول لهُ أنني بعد ثلاثة عقودٍ، سأركبُ طيارةً لأوّل مرة، كيف سيفهم أنني لأوّل مرةٍ في حياتي ألتقي أشخصًا ليسوا من بلدي، خارج حدود السجن الذي فرضه الاحتلال والواقع على جسدي، كيف سيفهمُ أنني لا زلتُ جاهلًا بإتيكيت المطارات والسفر، وأنني الآن أرتكبُ الحماقات. أريدُ أن أجلس إلى جانب الشباك، هذا هو المُهم، إنها تذكرةُ حُريّتي.

 

المشهد السادس

 

إسطنبول من السماء، جميلة، هل هي جميلة لأنها إسطنبول؟ أم أنها جميلة لأنني للمرة الأولى أُشاهدُ مدينةً من السماء. تظهرُ الغيوم، ثُم أشياءَ بعيدة من الأعلى، قبل أن تظهرُ أبراجها، أراضيها الخضراء، تفاصيل أخرى تبدو واضحةً مع الوقت، ومعها تبدو سعادتي أوضح. إنني الآن أحطُ في مدينةٍ أخرى، في عالمٍ آخر، إنني أدخلُ عالم الفرَح.

 

في المطار أيضًا، أناسٌ كثر، لا أعلم كيفَ سآخذُ حقائبي، فقط لأمشي مع الماشين، رُبما تدُلنا الطريق. ضباطٌ أتراك، ياه، ما هذه المُعاملة؟ أناسٌ كثر، أجانب، من دولٍ أخرى، بكل اللهجات، الثقافات، القامات، الأشكال، الألوان.. عالمٌ طويل. هل أكتشفُ العالم فقط من ممر مطار أتاتورك الدولي؟ أوف. لأرجع إلى غزة، فقد عرفتُ العالم.

 

لا يتوقفُ الأمر هُنا. هذا قطار، أو "مترو" كما يقولون، إنها المرة الأولى التي أشاهد وسيلة نقلٍ غير الباص والسيارة، عجيب. هذه ساحةُ تقسيم، ساحةٌ شهيرة، تمنيتُ أن تطأها قدماي. أذهبُ إلى فندقٍ حجزته خلال انتظاري في مطار القاهرة، أقول له أنني حجزت، يظهرُ اسمي. أتعجب من جديد، لقد عرفني، أنا ذاك الشخص الذي كنتُ في بلدٍ أخرى وحجزتُ غرفةً في بلدٍ آخر. 

 

أتعرفُ على المدينة، أكتشفُ العالم، أجوبُ المترو والباصات ووسائل النقل العديدة، أرى الناس وأمشي وأنا أتأملُ وجوههم، أتعجب، لا أحد يتدخل بأحد، لا أحد يسأل أحد ماذا يفعل. إنها الحُرية، حُرية أن تكون كما تُريد، لا كما يُريدُ العالم منك. لكن من سيقول للناس هؤلاء، لماذا أنظرُ إليهم؟ كيف يفهمون أنني لا أنظرُ إليهم لأنني حشري، أُحبُ التدخل، إنما لأنني إنسانٌ جديد على الأرض، لأنني وللمرة الأولى أكتشفُ وجود العالم، وأعرفُ أن هناك، خارج حدود المدينة التي أعيشُ فيها، حقًا يوجد عالم، وليس مجرّد أحاديثٍ من الخيال، تحكيها أُمي قبلَ النوم.

 

المشهد السابع

 

السيارة تنطلقُ من مدينة رفح إلى مدينة غزّة، تصلُ قلبَ المدينة. هُنا المجلس التشريعي، مفترق الجامعات، مدينة اللحوم، مفترق "أبو طلال"، مستشفى الشفاء، شارع النصر الشهير الذي يتقاطع مع شارع الوحدة. وجوهٌ كثيرة، نسيتها كُلها خلال سفري، نسيتُ تجوّلي في هذا المكان وأنا عائدٌ من العمل، أو للتسوّق وشراء الخُبز. لحظة صغيرة، أعادت لي العديد من الذكريات، أدركتُ شيئًا لم أكُن أعرفه مسبقًا. رُبما لم أشتاق لهذه المدينة، غُبتُ عنها ثلاثة أسابيعٍ فقط، مليئة بالتفاصيل السيئة والصعبة والأوقات المُتعبة، لكنني أُحبها.

 

المشهد الثامن

 

قصف، غاراتٌ في كلّ مكان، أصواتُ الطيران الحربي، انفجاراتٌ لا تتوقّف. المدفعية تُطلق قذائفها، صوتُ يتناثر على السطح، شظايا القذائف تُمطر فوقنا. غرفة مكدّسة بأكثر من ثلاثين شخصًا، أُمي وأبي وأُخوتي وأخواتي وأبناؤهم. الخوف يجوب بيننا، ننام قليلًا، ثم نستيقظُ على صوت المدفعية، قرّرنا الهربَ من المنزل، فالدبابات ليست بعيدة.

 

ساعاتٌ قليلة، يومٌ واحد، قررتُ النزوح إلى الجنوب. الدبابات تصطفُ مُقابلنا، لا تلتفت خلفك، احمل ألمكَ وتعبكَ وخوفكَ وامشِ. صورٌ كثيرة تخرجُ بعد أيامٍ لمدينة غزّة. الدمار في كلّ مكان. شارع البحر الطويل المشهور والمعروف باسم "شارع الرشيد"، أحالوه خرابًا. شاهدتُ ذكريات الأمس، جولاتي في السيارة على أنغام عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، التصفيق والترديد خلفَ الموسيقى قُبيل المغرب، مع أضواء مقاهي غزّة البحرية الصغيرة، كُلها، كل هذه الذكريات، ذكرياتي، رأيتُها مُحطمة ومتراكمة على جانبيْ الشارع.

 

الجندي المجهول، مكانٌ أكرهه، فيه يتكدس الأطفال والمستولين والباعة المُزعجين، شوارع متسخة، أناسٌ كُثر، زحمة العيد، زحمة العودة من العمل، شوارع غزّة في نهاية الأسبوع، ازدحام المولات التجاريّة والأسواق. لم أعرف أبدًا أنني أُحب مدينتي، كنتُ أتجوّلُ فيها، أكرهها أكثر، أحاول ممارسة عادة المشي، الأحب إلى القلب، لا أعرف، ففي الشارع كلّ شيء، إلا ما يؤهلها للمُشاة.

 

رأيتُها رُكامًا، ذكرياتي وتفاصيل مدينتي، لكنني في لحظةٍ واحدة، في لحظةٍ ما، رأيتُ حُبها في قلبي. لم أرَ غزة جميلةً من قبل، إلّا بعد أن داست على تفاصيلها السعيدة جنازير دبابات الميركافاه الإسرائيلية. لم أرَ أضواؤها وزينتها مُبهجة، إلا بعد أن قطعها الجنود بنسف الشوارع وتفجير البيوت، وهم يُهدونها لأولادهم.

 

قضيتُ حياتي أحاول الخروج من هذه المدينة، قضيتُها في الكُره والحقد على تفاصيلها، على تقييدها حُريتي، في أن أعرف العالم وأكتشفه، في أن أمشي بلا هوادة، دون أن أفكّر بما سيمنعني من الوقوف. لكنني في لحظةٍ فقط، قررتُ العودةَ إليها، قررتُ حُبها. الآن أُحبُ غزّة، لا أقولُ أنّي لن أخرجَ منها، فأنا أرى مستقبلي ومستقبل ابنتي خارج عالمٍ مليءٍ بالحرب والموت في أي لحظة، لكنني لن أقول أنني أكرهها، لن أنسى تفاصيلها الصغيرة الجميلة، لن أنسى الميناء وجمالها، لن أنسى شارع البحر، ولن أنسى حي الرمال والجندي المجهول، وفيها الناس يزيّنونها بحركتهم وضجّتهم الواسعة، بدلًا من صُراخ الجنود وصمت الموت في الشارع.


الوسوم

شارك


x