0%

بعد 114 يوما من حرب غزة



منذ 8 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 10 دقيقة

اليوم هو رقم 114 للعُدوان الصهيوني على غزة، اليوم انهينا فصلنا الدراسي الأول، ليسَ نحن فقط، بل جميعُ طلاب الجامعات والمدارس في العالم قد أنهوا فصلهم الدراسي الأول، عدا أطفال غزة وطلابها.

 

كان السؤال الذي يُلِحُ في ذهني ليالي امتحاناتي النهاية، بالإضافة إلى سؤالي عن إمكانية اجتياز الامتحان كأي طالب، ماذا عن أطفال غزة؟ ماذا مثلاً عمن تبقت لهُ سنة دراسية واحدة ليأخذَ شهادته، ويبدأ ببناءِ مُستقبله الذي لطالما حَلم به.. كيف سيعوضون ما فقدوه من حَقهم في الحياة والتعليم؟

 

كنت أفكر دومًا، هل العالم ظالم إلى درجةِ تصنيف طريقة حياتك حسب بُقعتِك الجغرافية؟
هل الطفل الذي يعيش في أي دولةٍ أخرى ولتكن أوروبية مثلاً.. يجبُ أن يكون لهُ حق في الحياة والتعلم واللعب، وأن تكون أقصى طموحاته إكمال واجبه اليومي.

بينما كان على الطفل الغزاوي أن يغرق في خيمته، ويفكر بوجبتهِ اللاحقة التي غالبًا لن يجدها أصلاً؟
لماذا كان يَجب على أطفالِ غزة أن يتركوا أدراج صُفوفهم الدراسية، ويبيعون الحلوى على أبواب المستشفيات ليستطيعوا تأمين وجبةٍ أخرى تبقيهم على قيد الحياة؟

 

كانت الأطفال تبيعُ الحلوى، وترتَجفُ من السيول الجارفة بدلا من أن تحاول حل مسألة رياضية معقدة مثلاً، والذي هو أقصى مراحل الألم التي يجب أن يفرضها العالم على طفل بهذا العمر.

 

عندما نكتب نشعرُ أن الكلمات لن توصل المعنى، لن توصل حجم المعاناة، ولا أتخيل سوى القصص التي قرأناها في الماضي، قرأناها ولم نصدق فظاعة وصف مشاهدها، أفكر هل سوف يتخيل من يقرأها بعد سنوات وجوه الأطفال الذين نتكلم عنهم؟
فأتذكرُ بعدها مباشرةً أن الكاميرات قد وثقت ما رأينا،
ولكن هل شَهِد العالم كُله على هذا بصمت؟

 

نسبة التعليم في غزة من أعلى نِسب التعليم بين شعوب العالم، وتتجاوز ال؜ـ 97٪ شعبها يحب العلم، يحب الحياة،
غزة تُعرف بمُثقفيها ومفكريها، وجامعات غزة تَعجُ بأبنائها

 

كتبت فتاة من غزة أن الغزيين بانتهاء العُدوان سوف يعودون إلى الحياة التعليمية في الخِيام باليوم التالي.. لن ينتظروا حتى الإعمار.. كانت جملة تهكمية لكنها حقيقية.. أهذا ما يحاولُ الاحتلال مَحوه باستهدافه المتواصل للجامعات؟

 

لا تصدق من يقول لك أن شعوب العالم الأول هم الأذكى، صدِّق صورة الطفل الغزاوي الذي اضطر أن يستخدم أوراق كتابه الفيزياء ليبيع الطعام أمام مدارس الإيواء، صدِّق أنه سُلب هذا الحق.

 

أفكر الآن في الثقل الذي كان يَحمله هذا الفصل بين تفاصيله، عندما كانت تشتد الأحداث في غزة إلى أقصاها كنا نسأل أنفسنا جميعًا ما معنى ما نفعله الآن؟ ما معنى أن نتعلم والأطفالُ تموت؟ كنا جميعًا نسأل أنفسنا السؤال نفسه، لكن بصوتٍ منخفض.. لم يسمعه أحد، لكِنا جميعًا كنا نسأله.

 

أذكر في إحدى المرّات عندما دخلنا إلى المدرج لحضور إحدى المحاضرات، كانت هناك على اللوح الكبير في زاوية المدرج مكتوب:

"إذا كان لا بدّ أن أموت
فلا بد أن تعيش أنت
إذا كان لا بد أن أموت
فليأتِ موتي بالأمل
فليصبح حكاية".

-الدكتور الشهيد رفعت العرعير

 

كان الدكتور الشهيد قد استشهد حديثًا، وكان لهذا أثر لا يُحتمل على قلوبنا في تِلك الفترة.. كنا جميعًا مُثقلين، ظلت العبارة على اللوح طوال الفصل، لم يمسحها أحد كما لو أنها لا تُمسح، ثابتة كما لو أنها حُفرت بالمَسامير.. رغم أن القلمَ سائِل، ويمكن مَسحُ الكلماتِ بسهولة، لكن لم يفعلها أحد.. كما لو أننا جميعنا كنا نحتاج هذا الكلمات، أن نشعر أن لوجودنا معنى.

 

وما زلت أذكر إحدى ليالي امتحاناتي السيئة، ليلة قصف المستشفى المعمداني، كان المستشفى الأول الذي اُسْتُهْدِف في هذا العُدوان، ولم يكن الأخير فيما بعد، كان العدوان على غزة في تلك الفترة شديدًا، وكنا نسأل هل يمكن أن يحدث أسوأ من ذلك؟
في تلك الليلة، وفجأة.. كانت جميع النشرات قد تركت نفس الخبر العاجل:
"قصف المستشفى المعمداني"
"موت المريض والمسعف والجريح".

 

هكذا كانت الأخبار.. هكذا قرأناها، أذكر أنه لم يستطع أحد أن يتحدث يومها. جميع من قابلتهم في تلك الليلة كانوا يبكون.. بكينا كما لو لم نبك من قبل، بكينا فقط.

 

في اليوم الأخير من هذا الفصل كانت قد خطرت لي فكرة أن أكتب عنهم، عن الذين أضاعَوا فصلاً دراسياً كاملاً من حياتهم، وأقصد هُنا من لم تستهدفه صواريخ الاحتلال، ولم يفقد حقهُ بالحياةِ أصلاً.. كنت أتمنى ألا أكتب هذا النص، كنت أتمنى أن يعاود الأطفال أدراجهم ولو باليوم الأخير، يوم واحدٌ فقط.

أن يحدث شيء يجعلنا نشعرُ أن هذا العالم ليسَ بهذا السوء، أو حتى أقل سوءًا؛ مما قدمَ نفسه لنا طوال هذا العدوان، لكنهُ لم يحدث.


الوسوم

شارك


x