0%

التراجيديا وغزة وجهان لإنسانِ واحد



منذ 8 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 10 دقيقة

لطالما تنافت تساؤلات عدة بداخلي، وأقصيتها العديد من المرات لكنني الآن.. مُحاصر حصار حزين، بين سؤالِ وصورة، صديقِ ووداع، حنين وألفُ دمعة، بين قسوة الدهر وطول الغياب، كفيّ طفلِ ووعاءِ فارغ، نظرات صماء ووجوهِ شاحبة، إنسانُ واثنتان وعشرون غابة، مُحاصر بين كفنِ وقماطِ طفل حديث الولادة، بين اختلاط التهاني بالتعازي.. ويبقى السؤال المنُفرد بنخرِ جدار الروح دائمًا "كم مرة علينا أن نتوادع؟ " قبيل كل سفر كُنا نودع الأهل، الرفاق، ونحزمُ حقائب السفرِ وبداخلنا صوت لفيروز " ضلوا تذكرونا " وبدموعِ تلمؤها الشكوك بأن هل سيسمح لنا القدر بالعودة مجددا؟

 

نودع الحارة الزقاق والبحر، متنفسنا الوحيد في بقعة تكاد تكون شحيحة الأوكسجين لكثرة دخان الغارات، الشهداء والدماء التي تتصاعد كل يوم منذُ خمس وسبعين سنة، يموت عزيزك وأنتما في نفس القطاع وأطول وقت بينكما ساعة، لكنك لا تقدر على وداعه، لا قبلة على جبين بارد، ولا لنظرةِ تُشبع مِنه العين التي سيغيب عنها دهرًا، لا لحضنِ يرممُ خراب الأيام بدونه، الوداع المتعارف عليهِ في العالم لم يُنصفنا قط، وحتى سُبل الموت قابلناها بأحلكِ الظروف وليلِ طويل لم تبزغ فيه شمس بعد.

واجهنا الموت في البيت، الشارع، الحارات، خلف ستارِ المطبخ، وفي بطون أمهاتنا لا ننفذ من شظية، صاروخ، أو ربما أنياب دبابة ضخمة، وما زلنا نرقبّه، ننتظر تصنيف القدر لنا، كما يُقال "الحزن يعرف أهله" هذا الحزن عاش بيننا سنينًا يحفظِ الأشياء المفضلة لنا عن ظهر قلبِ ليعود وينتزعها مِنا كلما سنحت له الفرصة، نال مِن حصص الفرح خاصتنا، زارنا الكثير من الأوقات، ولم يرحل عنا لبضعِ ثوانِ، ولأول مرة بعد قرنِ وشيءِ من الأيام أوقن بأن الصديق الفعلي لغزةَ من أكبر شيخ فيها لأصغر طفل هو الحُزن، لا غرابة في الأمر بلفظِ "صديق" لأن كل ما يندرج تحت لفظِ صديق ليس عليه أن يكون جيداً، صديق سوء على الأحرى واللإنفكاك فالحُزن، وهذا العالم كُلهِ بحدودهِ وخرائطهِ صديقًا لغزة.

 

أتنقل بين حديث الغرباء في الطرقات، وعلى المواقعِ بين حُزن امرأة؛ لأن صبغة الشعر خاصتها جعلتها أدكنُ درجة، بينما نساؤنا أصبحن بوجهِ مترهلِ وملامحِ أكبر من مقاسهن، وشعرِ قسمتُه خيوط الغرزِ، وبين عاشقِ وعاشقة يتجولان بأيدي مُتشابكة في الوقت الذي تُبكي أي عاشقة في غزة حبيبها سرًا؛ لأنه تركها بنارِي الحُب والذكرى، وبين أم تتفسحُ بأبنائها، وتجرُ طفلها الأصغر بعربةِ تملؤها صور الكرتون، المشهد نفسه يكُرر في بلدي لغيرِ امرأة أُم أيضًا تُجمع أبناءها لإطعامهم، فتُزهق طفولتهم آلة حربِ، وتترك لها دماءهم التي تُخضبُ أناملها ذكرى، وأمُ أخرى تّجر ابنها على عربةِ مليئة برائحة الدمِ لكثرة ما اعتمدناها لنقلِ الشهداء.

كل معايير الأرض تنقلبُ في غزة، كلُ أداة لها وجه استخدام واحد يُجبرون على جعلها مثلهم تتماشى مع الظروف كلهم، تعبنا من كوننا أساطير نريد هدنة من الأشياء التي تكاد تخنقنا حُصة من الحياة التي لم نعشها ولو لمرةِ واحدة، في كل مرة ضحكنا فيها من قلوبنا، وتبادلنا النكات أسكتنا صوتُ ليذكرنا بأننا غير مسموح لنا بالحياة (الله يجعل ضحكنا ع خير الله يستر شو بده يصير بكرا).

كأننا وجدنا لنستقبل الحُزن وخلانهِ بألوانه التي جعلت طفلاً لا يتجاوز الخمسة أعوام يودعَ عائلته كاملة، ويصنفه القدر بالناجي الوحيد ليستقبل حياة عريضة تملؤها الصعوبات وحده، بدون أم تصفف شعره، وتعد له حليبًا دافئًا يشبهُ براءته مع القليل من الزعتر، وأبِ يلاعبهُ يحتضنهُ ويُعلمه بأنه في ظهره دومًا، وأنه الوجهة الأولى إن أصابته حيرة أو أذى، أو أختِ تقاسمه حصة من السمرِ والأحلام قبل النوم، كيف له أن ينفذ خططه الشيطانية الصغيرة بضربِ ولد الجار بدون أخِ أو أخت تثني عليه بطولته وقوة شخصيته؟ كيف له أن يكُبر بقلب مُتعكزِ شُل فيه عمود العائلة؟ وبين طفلِ آخر بُترت ساقيه كيف له أن كانت هوايته الوحيدة هي كرة القدم؟ هل عليه أن يموت ثلاث مرات؟ مرة حينما اغتيلت طفولته ومرة عندما سيرقب أبناء جيله بساقيهم يلعبون وهو عليه أن يُشجع فقط! ومرة حينما يشيخُ بقدم واحدة والكثير من الحسرةِ..

 

في فلسطين لا شيء يسمى (بالطفولة) لأننا نولد جميعًا على عاتقنا أحزان ومسؤوليات كبيرة (دورِ تعبئة الماء، دور لشحن الهاتف، ربما دور على صف أحزان كدورِ لتكفين أخيك أو للمشي في جنازة أبيك التي ستحتمي بنعشِه للمرة الأخيرة قبل أن تسحبه الدنيا لمعاركها مُبكرًا.

 

حبيبتي يا غزة، حال بيننا جرح لم نحظَ بنهايةِ، لم نقل وداعًا ولبقيةِ حياتي سوف أتساءل لماذا؟


الوسوم

شارك


x