0%

لاجئة أنا يا غزة



منذ 8 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 11 دقيقة

المرءُ لا يتخلى عن أصلِه الذي وُلد عليه وأحبه

 

لاجئًا / ابن المخيم

 

أحببتُ هذا الاسم مرارا كونهُ يعيدني إليّ لكينونتي وأصل عائلتي، المكان الذي شكّل أحلامنا وبناها، وحينما خرجنا مِنه تفككنا، لطالما اعتدنا أيضًا على صوت ديكِ الجار في وقت الفجر، الصوت الذي كنا نحُبه ونهابه كون ضوء الشمس لم يبزغ بعد، ليالي المطر وصوت قرعِ الثلج على الأسطح وزخات المطر، لمّات جدتي (حليمّة) حول موقد النار والشايّ الذي تلمؤه المرمية، حواديثها عن بلدتنا الأصلية وكيف عاشت النكبة وهي طفلة عمرها خمس سنوات.

كانت تضع يديها مقابل موقد النار، وتلمس يدي بعدها كي أدفأ كوني من الأشخاص الذي يكرهون الملابس الثقيلة صوتها وهي تندد وتحذرني بأن استهتاركِ سيطرحكِ بالفراش مرضًا، لكن جدتي لم تكن تعلم أن كل تلك الذكريات من طرحتني أرضًا، كنت أحب أن تضع يدها على رأسي وهي ترتل القرآن بعد ما كانت تمرجّ أجسادنا بالزيت بعد كل حرب؛ مما يسمى (بقطع الخوف) لكنها لم تكن أن الخوف الآن هو القاطع الوحيد لكل ما نحلم، ما زال يتردد في أذني صوت صديقاتي وهنّ يرسمن حدود لعبة (الحجلة) كان تجمعنا في الحيّ مصدر إزعاج بعدها تخرج جارات الحارة وقت القيلولة بمناداتنا وتحذيرنا كي نكف عن الشقاوة، كبرنا للحد الذي حينما عدتُ فيه إلى المنزل لم أجد جاراتنا منهن من مات وأخرى انتقلت إلى منزل آخر، وبقيت ذكريات البيوت فقط!

يوم الخميس هذا اليوم الفاصل في الحياة كلها، ضجّة المخيم، آنذاك كانت تضايقني كونّي لا أستطيع الدراسة إلا بجو هادئ،
لكنها الآن أجلّ أحلامي، كنا نجلس على سطح البيت ونغني، حتى تأتي شمس المغرب، وتجبرنا على العودة إلى المنزل كي لا نتأخر، البقالة التي في آخر الشارع كانت تحفظ مواعيد زيارتي.

وصديقتي، ويعرف العمُ أيضًا ما اعتدت شراءه (كنت أحب الجلي المجمد حتى في فصل الشتاء، والشوكلاتات بكل أنواعها) لكنني الآن أقل صلة بهم عما كان مُسبقًا، كان هناك رجل من الباعة المتجولين في الحارات يدور بعربته ويغني، صوته إلى الآن يدوي في أذني، لكنني حينما عدت وجدته قد مات! كل ما تركناه هُناك تجدد لا شىءبقي يربطني بطفولتي.

ومخيمي إلا جدتي وبعض صديقاتي، الشوارع وبيتنا والناس جميعهم تجددوا، ومن لم يتجدد هُدم في الحرب، فبقيت الذكرى، ورحل المكان وأشخاصه، حتى صديقاتي منهن من قدر الله لها أن يكون نصيبها خارج حدود البلاد وستذهب، لكنها مسألة وقت، ومنهن من تزوجت في حيّ بعيد، ما بقي شيء سوى عتبة منزل بيتهم التي تحفظ ساقاي من شدة تجولي هُناك، وجدران بيتهم من شدة ندائي لهن وقت اللعب.

كل هذه الأشياء ربما سيذكرنها في يوم عابر حينما يمرون بأطفال في عمرنا، أو ربما حينما يخبرن أطفالهن أننا بيوم من زمان ما كُنا، ووحدي أنا أبقى أقلب زاوية الذاكرة، وأجد نفسي محصورة هُناك، لم أفصح يومًا عما يجول بخاطري من هذه الأشياء إلا قليلاً، حينما أتحدث مع أصحابي في وقت الصغِر يغزو عيناي دمع رقيق، بأن كيف تشاركنا الطرقات يومًا وفرقتنا.

أقدار الحياة أيامًا، أحيانا أتمنى لو أنني لست بالشخص العاطفي الذي تحبسه الذكريات في كل مرة يرى فيها شخص. حتى لو كان قد سبق وذهب من حياته، ذاكرتي لا تتذكر سبب الذهاب بدقة، لكنها تتذكر الأيام والأماكن التي تشاركنا فيها حصة من السهر والسمر!

كُنت أود لو أنني عدتُ ووجدت الجميع موجوداً والأماكن، لكنني نسيت بأننا في بلدِ موقوف رهن الحزن والحرب فجأة لا أكُن كرهًا للبلاد، أكُن عتابًا، لمَ نتعب فيكِ، ولا نزال نُحبكِ حد الشوق! لمَ انتزعت أحلامنا فيكِ وغُرِبنا بعيداً عنكِ، ولم نزل نحلمُ بلقائكِ في نهاية كل عام كان بصيص لقائكِ دافعاً لنكمل مهامنا الدراسية على عجل، ما خجلت يومًا من أنني منكِ، ورغم ما يتعرض له المرء، ويرى من تنمر على أنكِ (ابنة مخيم) بنظرة توحي لك بأن المتحدث مستغرب، لكنه لا داعي للغرابة بمجرد أنك تلقي أحكامك على الناس من أماكن معيشتهم، ولا أرى في الأمر شيء في مساس أو شيء يُخجل مِنه.

كوننا جميعًا هُجرنا وأجبرتنا الحياة أن نسلك طرق أخرى لنحيا، كُنت دائمًا أرى على تويتر تغريدة لأناس يستهزؤون بنا كوننا نعيش بمخيم (بنظرهم مقبرة متلاصقة القبور فيها) وبنظرهم أنها ممنوعة من الهواء بس الاكتظاظ المباني والسكان فيها، لكنهم لم يكونوا يعلموا بأنني أتدرب منذ ثلاثة أعوام على أن أعيش خارجها، ويغلبُني طبعي لا تطبعي، ولم يكن لهم نصيب أن يعلموا أننا نتنفس من أسواقها، حاراتها ورفاقها، وهم يشككون في تحصيلنا العلمي بكلمات مرتبة هذا (هم تاعين المخيمات عندهم مدارس؟) لكنهم مجددا كانوا ناقصين في الاطلاع متطاولين في الحكم للحد الذي كانوا لا يعلمون أن أول المحافظات من مخيم وأول الفائزين في الجوائز على مستوى فلسطين من المخيم، لم يكونوا على وعي كاف بأن الصف الذي كان يحمينا كان يمتلك أقل شيء خمسة من الرسامين وثلاثة من صاحبي إلقاء الشعر غير أوائِل الفصل.

 

قصرت بهم المعرفة حينما جهلوا أننا لا نقوى على العيش بعيدًا، وأننا بكينا دمًا على الأطلال حينما فارقناه مرة وأخرى.
وحدنا نملك تمام المعرفة ماذا يعني حجرات فيها روح وطن وحدنا!


الوسوم

شارك


x