0%

نصوص متفرقة خلال حرب الإبادة في غزة



منذ 8 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 13 دقيقة

أمّة مُتخاذلة

 

هذه الحرب أثبتت أنّ الأمة العربية بلا شرف، أنّ العرب حثالة حدّ القرف، أن غزّة وحدها بمساحتها التي لا تتجاوز ال٣٧٠ كم مربّع وقفت شامخة أمام العالم، رافعة راية الكرامة، ممتشقة أجساد أبنائها، دافعةً إيّاهم بكلّ فخر إلى العلياء مُقبلين غير مدبرين. هذه الحرب أثبتت أن "إسرائيل" تروّض العرب كقطع البيادق، تُحركهم يمينًا يسارًا، تُلجم ألسنتهم ببساطيرها النجسة، هذه الحرب أظهرت الجبن الكامن خلف وجوه القادة، أظهرت سخافة أسلحتهم ودباباتهم ورصاصهم وجنودهم.

ألا إنّكم والله أُمّة هشّة أوهن من بيت العنكبوت، تتفاخرون بأبراجكم وبواخركم ومطاعمكم الفاخرة، بأعدادكم الهائلة وجيوشكم الكبيرة، وعند أوّل حرب تتساقطون كألواح الخشب. سُحقًا لكم يا أمّة تسخر منها الأُمم، إلى مزابل التاريخ فردًا فردًا.
شُكرًا غزّة، شُكرًا مدينتي على كأس العزّة قبل الموت، الآن إن متنا نموت أحياء بشهادة الكتاب الكريم: "بل أحياءٌ عن ربّهم يُرزقون"
تعبنا ونحن نستنجدكم، بُحّت أصواتنا، وانفطرت قلوبنا، ولم تصحُ ضمائركم الحقيرة بعد، نُسفت المعايير، وانتهكت الحُرمات، وسالت الدماء، هُدّمت البيوت والمساجد والجامعات والشوارع والقبور والمدارس والمستشفيات وقُتل الأطفال والرضّع والأجنّة والنساء وكلّ من وطئ ثرى غزّة، وما زالت ضمائركم خامدة، إلى أيّ فصيلة تنتمون؟ الحيوانات؟ لا لا مستحيل، إنّكم أشدّ قسوة من الحجارة، إلى مزابل التاريخ..إن لم تثوروا لأجل الأطفال في الصور، ثوروا لأجل دينكم ومقدساتكم! أين إنسانيتكم؟

 

19 أكتوبر 2023

 

يموتُ من يعيش

 

71 يومًا ولا زالت الراحة تحدّق بنا من ثقب في جدار التعب، تسترق الشهداء وتترك الباقين محجوزين في خندق التعب. الشوارع هُنا مُعبّقة برائحة الدم، والأرصفة مصابة بهشاشة قاتلة، السماء مُلطخةٌ بحزن عميق، والهواء مرهق بالكاد يجرّ الأوكسجين.
وقعنا في كابوس عميق، ولم نصحُ منه بعد، نبكي بسبب وبلا سبب، الدموع تسقط من تلقاء نفسها، تسقط لأنّها عاجزةٌ عن التماسك. بالأمس بكيتُ مرتيّن، ثم تساءلتُ بدهشة: "لِمن أبكي؟"، لي ولأهلي، أم لأصدقائي الذين قضوا نحبهم؟ لأولاد خالي الذين فارقونا باكرًا؟ أم لأولاد عمّي المحاصرين في البيت؟

لأجساد جيراننا تحت الأنقاض، أم لأعزّ أصدقائي وهو يكلّمني بنبرة ترتعد خوفًا؛ لا يعلم أين يذهب؟ أين يُخبّئ أهله؟ يُخبرني بصوت باهت "أمّي مش قادرة تمشي وين أشرد فيها؟"، لمن أبكي؟ ها؟ للجوع الذي يعتري بطون الأطفال، أم لوجوه المارّة المطليّة بأرقٍ داكن؟ للدمّ الذي يركض في الشوارع، أم للمدينة التي فقدت بيوتها ومعالمها؟ للجريح الذي ينزف بلا علاج؟ أم لمشاهد الوداع الحارقة؛ للأمّ التي فقدت مولودها الوحيد، أمّ للرضيع الذي أضحى وحيدًا بلا عائلة، للعائلة التي انمحت بالكامل، أم للرجل الذي دهسته الدبّابة أمام عيون أهله..أمام عيون العالم!

يعيش هنا من يموت، ويموت هنا من يعيش، والكابوس مستمر. كلّ المناطق صاخبة، وكلّ البيوت حزينة، وكلّ العقول مشوّشة تسأل نفسها: كيف يحدث هذا، في القرن الواحد والعشرين، أمام مرأى العالم؟ عائلات تُراق دماؤها بلا ذنب، ترسانة متفجرات لا تتوقف، أشلاء أطفال في كل مكان، أجساد متفحمة، متحللة، مجهولة الهوية، كيف يحدث هذا؟ كيف؟

 

16 ديسمبر 2023

 

جثّة ضائعة

 

ونحن نبحث عن جثّة ابنة خالي تحت الركام، وجدنا جثّة مُقطّعة غير واضحة الملامح، دفناها مُتأملّين أن تكون لابنة خالي، بعد أسبوع تبيّن لنا أنّها جُثّة لامرأة أُخرى، وأنّ أحد الجيران قام بدفن ابنة خالي مُتأمّلًا أن تكون امرأته..ما أقبحها من حرب!

 

17 يناير 2024

 

عدالةٌ مفقودة

 

استغربتُ حينما رأيت البعض من معارفي ينتظرون بشغف صدور قرار محكمة لاهاي، أكثر من مئة يوم ونحن في عُمق الجحيم؛ كلّما انخفض منسوب احتراقنا سكبوا علينا مزيدًا من الوقود، مئة واثني عشر يومًا وما زال لديكم بصيص أمل في عالم مهزوز! العدالة لا تأتي من محكمة لاهاي ولا من قصر الملك عبد الله، لا من فندق السيسي ولا من طائرة عبّاس، الحقيقة باتت عاريةً أكثر من أيّ وقت، واضحة وضوح الدم المرسوم على جبين الشوارع، وضوح الخيام المنثورة على الرمال، وضوح الجوع الذي يجثم على بطون الأطفال، وضوح البؤس في عينيّ هذه الجميلة، الحقيقة ساطعة والعالم أعمى، والعدالة بيدّ الله جلّ جلاله.

محكمة لاهاي جزء من المسرحيّة التي تلهو بأرواحنا، من سكت عن محرقة جباليا وعن مجزرة المعمداني وعن مقبرة خانيونس، ومن عقد قمّة طارئة بعد شهر من إبادتنا لن يوقف الحرب، وحده الله ولحكمةٍ يعرفها من يأمر الحرب الحقيرة بالتوقّف.
قلبي عليكِ يا صغيرتي، على الطفولة التي سرقوها منكِ، على الأحلام البريئة التي طمستها همجيّة القذائف، على عيونكِ التي أذابها بركان الرعب، على عمركِ الذي تضاعف في ظرف شهور، الموت تفوق علينا، سامحينا يا صغيرتي، ولا تسامحيهم، العنيهم في كلّ لحظة، كلّهم بلا استثناء شاركوا في قتلنا، راقبوا موتنا وقلّة حيلتنا فأرسلوا لنا الأكفان، راقبوا احتضار بطوننا فأرسلوا لنا الطعام كي لا يُقال: ماتوا جوعى، ومع هذا نموت جوعى، نموت بلا أكفان، نموت من البرد، من قلّة الدواء، من غزارة الفقد وحدّة الشوق، من القهر والضعف، من العطش والاختناق من كّل شيء، حتى من الحياة.

 

26 يناير 2024

 

النّاجي الوحيد

 

بودّي لو أخلع الغطاء عن الغيمة في داخلي، لأحظى بما يحظى به الأطفال الحزانى، بُكاء غزير يزيح عنّي أطنان التعب، لقد اكتشفنا أبعادًا جديدةً للبؤس، واكتسبنا قدرات تفوق التصوّر، وغيّرنا كثيرًا من أساليب الحياة الاعتياديّة، نعيش بلا كهرباء، بقليلٍ من الماء وكثير من الجوع، بأجساد ترتجف من البرد وتشتعل من القهر، بخيامٍ تغطس في المطر، ببيوتٍ منزوعة الحوائط، وعقول يذبحها التفكير، بودّي لو أبكي الآن، وأنهمر كخزّانٍ انفجر بغتةً، لكنّ الشخص الذي صافحني للتوّ أخبرني أنّه الناجي الوحيد، وأنّه سعيدٌ رُغم أنّ أقدامه مبتورة، سعيدٌ لأنّه ما زال حيًّا، يزيّن قبر عائلته بطوقٍ من الورود وسيلٍ من الدعاء، مُنتظرًا نموّ عائلته من جديد.

 

2 فبراير 2024


الوسوم

شارك


x