0%

أن تعيشَ الغُربةَ في وطنك



منذ 8 أشهر
الوقت المقدر للقراءة: 10 دقيقة

مِنَ المؤكد أنهم سيرممون و يُعيدون إعمارَ غزة و سُتُعاد في المدينةِ والبُنيانَ الحياةَ من جديد،
لكن نحنُ سكانَ غزة، مَنْ ذا سيعوُضنا ما فقدنا في دواخلنا؟
مَنْ ذا سيُعيد لنا حُب الحياة بعد أن إنطفأت بأعيُننا؟
و إن أعادوا الأماكن مَنْ جعلنا نفقدُ الأحباء و الأهلَ و الأصدقاء بعد أن قطعَهُم أشلاءً أمامنا كيف سُيعيدهم لنا؟
مَنْ سيرجعُ الأحباب بعد أن رحلوا؟
ذكرياتنا الطفولية و الحياتيِّة السابقة التي دُفنت وهُدمت كيف لها أن تُعاد بعد أن سُحقت؟
مَنْ كسر أنفُسنَا حينَ ذُللنا لكسرَةِ خُبزٍ قد اشتهيناها بعد حرماننا للطعامِ شهور عديدة، كيف سيُغفر له؟
لِكُلِّ من جعلنا نحملُ همًا أكبرُ منّّا وتعاسةً تكفينا سنينَ طويلة، كيفَ سنُسامحهُ؟
الحرب لم تُدمرَ بُنياننا وشوارعنا فقط ،،
هي قد دمرت حقًا آخرَ ما تبقى لنا من حُبٍ للحياة

 

قبل الحرب، كُنت فتاةً مُفعمةً بالحياة، طالبة ماجستير بالفصلِ الأول، الكثير من الطموحات والأحلام بُنيت بهذا الوقت، في شهر أيلول تحديدًا، كنتُ أُحب التسكع مغربًا مع رفيقتي في الدراسة فاطمة، و في احدى المرات وقفنا أمامَ احدى الفلل الجميلة و الابراج العامرة في غزة، مازحتها قائلة : " بيوم من الأيام حتزوريني في فيلتي و برجي الخاص فيا ي فاطمة "
واصلنا المسير إلى أن وصلنا مفترق الوحدة مع الرمال و وقفت و سَرَحت في هذا البرج العالي،
قاطعتني فاطمة قائلة : " وين سرحتي كمان هان "
أخبرتها أن هذا البرج يحملُ الكثير من الذكريات الطفولية التي عشتها ببراءة و حب و آمال أعلى منه حينَ كنت أُقدم برنامج على الراديو في صغري،
ومضينا مُتسامرين بأحاديث خُلدت في ذاكرتنا للأبد
في الحرب، بالأول من فبراير، في مكان نُزوحنا المهترئ المنقطع من كل أسبابِ البقاء في الحياة، استيقظت مُشتهيةً للفلافل وأخبرتُ أمي بذهابي للبحث عن بائع فلافل، ففي الحرب و خصوصًا عندنا في شمال قطاع غزة من المُعجزات أن تشتهي طعامًا و تجده بسهولة إن لم يكن قد انقطع، كَونَ الطعام أصبح من النادر وجوده !
خرجت مُستودعةً نفسي لله داعيةً أن أجدَ الفلافل التي اشتهتهُ نَفسِي البشرية وآكلهُ من دون أن تُصيبني رصاصةً طائشة من تلك " الكواد كابتر " المنتشرة حولنا في كل شبرٍ من غزة أو تُقذفَ نحوي قذيفةً من الدبابة أو أن يُباغتني صاروخٌ من الجو من تلكَ الطائراتٍ الحربية التي تحومُ فوقنا باستمرار بلا توقف ..
هه !
حقًا ما هذا الهُراء، لِكَي أأكلُ شيئًا يجب أن أستمرُ بالدعاء لله أن أعيش لكي آكله !
مضيتُ بالسير و يدي على قلبي بخوفٍ حقيقيّ
إلا أن وقفتُ و كأنَّ صعقةً كهربائية سرَت في جسدي، من ذُهولي و تعجُبي مما رأيت،
رفعت رأسي عاليًا والتقطتُ هذه الصورة التي أرفقتُها في أعلى التدوينة " برج الاذاعة و التلفزيون "
أن تقفَ على أطلالِ بنايةٍ مليئة بذكريات طُفولتك الجميلة، نصفها قد دُمر و تتأمل مدينتك الحبيبة -غزة-
ستَجِدُ أن عينُكَ لا إراديًا تتفتح و تُغلق
من هَولِ حُزنها بصمتٍ على ما ترى
و صدمتها بالحبيبة بما كانت و بما صارت
تأخذُ الروحُ تنهيدةً مُجوفةً في الأعماق
لتخرجُ مُتقطعةً بتنهيداتٍ مُصغرةً على مراحل
بألمٍ قانطٍ في النفس و حديثٍ داخلي يقول:
هل أعيشُ الآنَ في وطني ؟
حقًا ..
هل هذا هو وطني ؟
أوَ كأنني جُننت حين شعرتُ بِ كونِي
انسانةً مُغتربةً
عن وطنها بداخلَ وطنها !
تساءلت : غزة الجميلة الصَّبورة،
أين رحلت ؟
كيفَ يشعُر المرءُ فينا بالاغتراب عنها و هو فيها ؟
أحسستُ أن الجميلة تُخبرني أنها تفتقدُ أُناسها الذين نزحوا عنها في الجنوب رُغمًا عنهم، تفتقد معالمها ، بُنيانها ، شوارعها ، أطفالها ، نساءها ، شيوخها ، و رجالها
غزة
غُربةُ الرُوح ، كلالةَ الجسدُ المُتعب
حزينةً بصمتٍ مُوحش يُطابقُ نَفَسَ كُل من يتنفسُ فيها
لَمْ نزرعَ يا الله في أرضها سوى الحُب
فكيفَ حصدنَا هذا الخرابَ كُلَه !
تَنَفسُت مرةً أخرى بنشوةِ ذكرياتِ حُبٍ و تطرقَ رأسي عاليًا كما تُحب هذهِ المدينةَ لسُكانها أن يكونوا دومًا
مرفوعين الرأس - و رددتُ كَ مَنْ فاقَ من غيبوبته
" حنين أفيقِي ، هذا حقًا هواءُ مدينتي الحبيبة غزة "
صاروخٌ من حولي قاطعَ وقفتي أمام البُرج
ولم أجد نفسي بعد دقائق إلا هاربةً نحو أمانِ الانسان
حُضن من يُحب
أُمه
فيما بعد
لم أحزن لأنني لم أأكل الفلافل أو لأنني رأيتُ البرج هكذا
ما أحزنني حقًا فيما بعد
تفكيري بمن هم مثلي في غزة،
الذين قد نجوا بأُعجوبة حين باغتتهم الصواريخ
ومضوا هاربين نحو الاحتماء بمن يحبون
لكنَّ الحرب أفقدتهم من يحبون
وخافوا كثيرا ولم يجدوا حضنًا يُخفف عنهم وطأةَ الخوف
وبقوا بدونِ أحباء
بدون حُب
بدون حُضن
و بدون حياة


الوسوم

شارك


x