جثث لا تجدُ لها قبورًا
تُسابق الدموعُ أصابِعي وهي تحاول وصفَ رحلةِ الرحيل بعدما أُرغمنا تحت النار على ترك بيوتنا وديارنا والنزوح بعيدًا عنها، أهوالٌ أقف أمام مشاهدها وهي تتواردُ في ذهني في ذهول تامٍ متسائلة إن كنت قد رأيتُ ذلك وعاينته حقيقة أم أنها غيبوبة أو كابوس ما سأستيقظ منه قريبًا..وأيُّ كابوس وأيُّ عقلٍ يحتمل كابوسًا كهذا!
ومن بين آلافِ المآسي والفظَائع، كان أشدِّها وطأةً على النفس مشاهدُ الجثثِ في الطرقات، أن ترى الجثث في الشوارع هنا وهناك، جثثُ شهداءٍ ملقاة على الأرصفة منذ أيامذ لم يستطع أحد الوصول إليها، ولم يعلم بارتقائها أحد، وقبضة ذلك الطفل الصغير تظهر من تحت الغطاء الذي غُطي به، وجثتهُ الصغيرةُ في الطريق متروكة مع كومة أجسادٍ صغيرة بريئةٍ بجانبه..منظرٌ يعتصر له القلب ويدمى له الفؤاد، أيّ إجرام هذا! أيُّ وحوش تلك التي تقوم به!
أما أولئك الشهداء فوجدوا من يغطي جثثهم بغطاء ما، لكنها رفاهيةٌ لم يمتلكها غيرهم، فقد تبع هذه المشاهد المفزعة مشهدٌ أشد فظاعةً وفزعًا: جثتان لسيدةٍ وابنها كان قد قطّع الانفجار أطرافهما وبقيت الأشلاء هكذا في منتصف المفترق، جثثٌ مقطَّعة في الطريق العام لم تجِد من ينقلها حتى إلى جانب الطريق، قُتلا بهذه الفظاعة وبقيا في مكان استشهادهما غارقان في الدماء!
كل هؤلاءِ الشرفاء الأطهار الكرام لم يحظوا بسنةُ إكرام الميتِ بدفنهم، وربما منهم من نزف وحيدًا قبل ارتقائه ولم يجد المساعدة.
خلال نزوحنا ووصولنا الحاجز وبعد أن تشبّعت أجسادنا من التعب والخوف، وجدنا جثثًا عند الباب وقد كانت هذه المشاهد قد أخذت من ذاكرتنا ما يكفي لكي لا ننساها أبدًا، بينما كنا نقطع الحاجز وإذ بصحفيّ يتخطى الخط قليلًا ليلتقط لنا صورة، حتّى يوثّق جرائم الاحتلال، بكن للأسف كانت رصاصة الجنديّ أسرع من الصورة، فارتقى شهيدًا بلمح البصر ودون سابق إنذار، وفي تلك اللحظة تمنّيتُ لو أنّ العالم اختفى كلّه، وزال هذا الاحتلال إلى الأبد.