الجوع في شمال غزة خلال الحرب.. شهادة الصحفي حسام شبات



الوقت المقدر للقراءة: 19 دقيقة
منذ 9 أشهر

يسجل الصحافي حسام شبات من شمال قطاع غزة شهادته حول المجاعة الضاربة في شمال غزة في بعد أكثر من 111 يوما لحرب الإبادة الجماعية على غزة، والوضع الإنساني الكارثي، ويشاركنا حسام معاناته الشخصية التي لا تنفصل عن معاناة الأهالي الصامدين في الشمال. 

أنا موجود الآن في شمال قطاع غزة وأقدم شهادتي عن الوضع الكارثي الذي لا يوصف هنا، صحيح أنني أصوّر الأحداث، ولكن ألم الجوع الذي يلمّ بالأطفال، وقرقرة البطن وشكواه من الجوع لا يمكن لأي كاميرا التقاطها. يعاني المواطنون في شمال غزة من ظروف صعبة وانعدام مقومات الحياة، ولا أعرف ما يعين الناس على الصمود في قلب هذه الكارثة، فقد قصف جيش الاحتلال جميع البيوت وفقدنا جميع الملابس والفرشات، والآن ننام جميعًا مفترشين الأرض. 

تراجع تصعيد جيش الاحتلال وعدوانه وخفت حدّته على شمال قطاع غزة ولكنه لم ينتهِ بالكامل فالقصف مستمر، والمعاناة تتجدد بعد القصف، والجانب الأبرز لها الجوع الذي يعم المنطقة، إذ بتنا لا نجد رغيف أو طحين للمواطنين، والماء غير موجود، الطواقم الطبية قتلت واعتقلت أو نزحت، وتوقفت الخدمات الطبية تقريبًا.

أطفال من شمال غزة خلال الحرب مع الصحافي حسام شبات

مجاعة حقيقية في شمال غزة

صادفتني بالأمس طفلة صغيرة، وقالت لي، "أنا يا عمو ما أكلت من الصبح تمام؟ مش من الصبح تبع اليوم! من الصبح من قبل 3 أيام". وفي مرة أخرى جاءتني امرأة وقالت لي، "إحنا منذ بداية الحرب حتى اللحظة إحنا بنصوم كل يوم، إحنا رمضان أجالنا قبل ميعاده. يا حسام مش قادرين ناكل". أفهم معاناة الناس، فهم يرون بالصحافي في غزة، وكأنه قامة وهامة ويمد لهم يد العون والمساعدة، إننا نساعد بما نقدر عليه ولكن ما بنقدر نطعم كل هذا الشعب. نرى حالات ونسمع شكوى الناس ويخرجون آلامهم ومعاناتهم لنا، لكن ليس باستطاعتنا فعل أي شيء سوى أن ننقل لكم هذه المعاناة.

التكية أغلقت أبوابها

أريد أن أحدثكم عن التكية (هي المكان الذي يقدم معونات للمحتاجين وكانت موجودة قبل الحرب) وفي الحرب زاد الإقبال عليها وكان يصطف المئات من مختلف مراكز الإيواء بل الآلاف، ليتزودوا بالطعام من ما يقارب 6 إلى 7 طناجر من الأرز، ولكن اليوم انقطعت هذه التكية عن تقديم الطعام بسبب شح المواد الغذائية الأساسية. تخيل أن 6 آلاف نازح وما يقارب عن المئات من العائلات كانت تعيش فقط على طبق الأرز من التكيات. الآن انقطع طبق الرز وانقطعت المياه وأغلقت التكية أبوابها لشح المساعدات والموارد.

انقطاع المياه بالكامل واكتمال أركان المأساة

انقطعت المياه والكهرباء التي كانت متوفرة قبل عدة أيام، أما الآن لا يوجد وقود لتشغيل آلية سحب وضخ المياه، فلا يوجد وقود لتشغيل المولد وإخراج المياه الصالحة للشرب وغير الصالحة. يجتمع الآلاف من المواطنين لتشغيل المولد حتى يحصلوا على الماء. كما قلت المعاناة في الشمال كاملة الأركان، لا مياه، ولا كهرباء، ولا طعام، ولا خدمات طبية، ولا أدوية، وانتشرت الأمراض المعدية  بسبب القمامة المتراكمة في الشوارع وفي مراكز الإيواء.

إن لم تقتلنا الصواريخ سيقتلنا الجوع

إذا لم يمت شعب في غزة وشمال غزة من القصف سيموت من الجوع. قبل أيام مات طفل بسبب عدم وجود حليب، ماذا ننتظر؟ شمال غزة منذ ثلاثة أشهر ما وصل له أي مساعدات. حتى هذه اللحظات يبقى قليل من الأمل وبصيص منه، ستنتهي هذه الحرب يوما ما، وسيعيش من يعيش ونسأل الله بعد أن نموت أن نجد من يحافظ على الجثة ويدفنها في مكان آمن.

العائلات المتعففة

الجوع هو أسوأ شيء عشته، يعني يوجد عائلات لم تتكلم ولم تنادِ ولم تصرخ من الجوع بسبب التعفف. هذه العائلات لم يستطع أحد الوصول إليها حتى هذه اللحظات، لكننا نحاول أن نتفقد كل البيوت رغم هذه المعاناة. أيضا يُضاف على كل هذه المعاناة مياه الأمطار الغزيرة التي تتساقط على المواطنين في الخيم التي لا تسترهم إلا من ضوء الشمس.

حرب على مؤسسات إغاثة  

هنا في شمال قطاع غزة لا توجد أي مؤسسة إغاثية تعمل بالحجم المطلوب، وإن وجدت فهي أقل القليل. يقدمون وجبات قليلة جدًا لنا، وأحيانا تتوقف لأسابيع بسبب الحصار، ما يزيد الحال صعوبة هو محاربة الحسابات التابعة لهذه الجمعيات يعني تم توقيف العشرات من الحسابات التابعة للجمعيات الإغاثية بسبب الإغلاق والحظر في ظل محاربة كل الفلسطينيين في جميع الدول. 

العلف بدل الطحين

شهدت الكارثة الكبرى حيث بدأ الناس من الجوع يلجأون لعلف الدواب بسبب ندرة الطحين في القطاع لتحضير الخبز. كان الطحين الأبيض موجودًا منذ بداية الحرب، وهو الذي نعرفه في شمال قطاع غزة، وكل القطاع، هو الذي نعيش عليه ونأكل منه. في هذه المرحلة من الحرب المستمرة في شهرها الرابع الطحين لم يعد موجودًا، بعد 50 يومًا من الحرب بدأنا نشعر بشح هذه الكمية من الطحين. الآن لا يوجد أي جرام طحين أبيض. شهدت كذلك توجه المواطنين إلى طحن القمح. وهو كان مناسبًا ولكن غير مرغوب كما الطحين الأبيض، واضطر المواطنون اللجوء إليه بسبب عدم توفيره وعدم إدخال أي كيلو طحين، وأي كيس طحين أبيض إلى شمال قطاع غزة.

طحن العلف والغلاء

رأيت بأم عيني كيف اتجه المواطنون إلى طحن العلف (طعام الحيوانات) بعد نفاد القمح، ولكن بسبب زيادة الطلب على العلف والذرة، ارتفعت أسعارها بطريقة جنونية. يعني سعر رطل الطحين الذي يمكن أن يخبز 30 فطيرة صاج تكفي لعائلة واحدة في اليوم صار سعره 80 شيكل. هذا طحين القمح بديل عن الأبيض. سعر طحين الذرة و العلف ما يقارب 50 شيكل. يعني في ظل الحصار الذي نعيشه لا يمكن للعائلات توفير مبالغ كهذه لشراء الطرود. فجأة العائلات وجدت نفسها لا تستطيع توفير هذه الكميات فالتجأت أن تقاسم الدواب العلف. يعني تارة يطعم حماره وتارة يطحن الشعير والعلف وأكل الدواب حتى يطعمه لأبنائه. 

 الإندومي وإسكات جوع الناس

عادة ما نحاول لإسكات جوع الأطفال بالإندومي، الذي يسكت جوع طفل لمدة لا تزيد عن 5 دقائق حتى 10 دقائق بالأكثر، لكن ما في أي بديل عن الطعام الرئيسي والأساسي وخصوصًا للأطفال في مرحلة النمو. الإندومي هذه لتسلية الأطفال. نكذب على الطفل ونقول له، "خد هاي علبة إندومي". وهذا كله لا يساعد، تذكرت إحدى العائلات التي عاشت ما يقارب 20 يومًا على العوامة و الحلب. هذه حلويات!

توزيع المساعدات

 تجمع الجمعيات المساعدات المالية وغيرها، وتشتري من الأسواق المواد الغذائية التي تتوفر بكميات قليلة جدًا وبأغلى الأسعار. البضاعة المتوفرة باهظة جدًا. يمكن القول، بإن كيلو العدس كان بـ6-8 شيكل الحين كيلو العدس بـ22 شيكل. الفول كان موجودًا في السوق بـ5 شيكل واليوم الفول بـ12-15 شيكل. وجبة الطعام التي يأكلها الناس في اليوم غالية وغير كافية، على المستوى الشخصي أنا مثلًا، بعتبر أنه معي مبلغًا  يؤمن لي وجبة واحدة في اليوم خلال الحرب، يعني مع الأسف أنا بحكي… على المستوى الشخصي أنا حسام وأغلب الناس المتقدرة تأكل وجبة واحدة في اليوم وهي وجبة الغداء. نحن نحمد الله حين نجد وجبة الطعام. لأن عائلات كثيرة لا تجدها.

صحافي يشاطر الناس معاناتهم وجوعهم

أسوأ ما عشته علي في الحرب كان من ناحية أهلي. لما أمي تيجي بدها توخذني وتكرر الموضوع 4-5 مرات. تأتي من رفح والنصيرات تريد مني مرافقتها والنزوح معها قبل الإغلاق الطريق وتقول لي، "يمّا اطلع معاي" وأنا أرفض. أنا أدرك أهمية الرسالة التي أحملها لذلك لم أترك الشمال وأدرك أهمية توثيق جرائم الاحتلال. بكت أمي وجميع أهلي بكوا حين تركوني في شمال قطاع غزة، ودعّوني وداع الشهيد.

بالنسبة لي أنا حسام شبات صحافي في شمال قطاع غزة. أنا أهلي وكل أقربائي نزحوا بعد قصف منزلي وتهديدي من جيش الاحتلال لعدة مرات. وأصبت في هذه الحرب. وذقت معاناة وقسوة الحرب وخصوصًا في ظل غياب أهلي. وتساءلت على الدوام من سيعد لي الطعام من سيحضر لي الملابس ويعتني بي كما كنت في السابق. الآن أنا أعيش وحدي في شمال قطاع غزة.

أخرج منذ الصباح دون أكل، كأي واحد من أبناء شمال غزة. وأظل ما يقارب من الساعة الـ6 صباحًا للساعة 9-10 في الليل بدون أكل وإن وجدت اشتريت وأنا ماشي وأحيانًا آكل بسكوت. أما توفير الأكل على الدوام يكون نادرًا لأن الطعام غير متوفر. نحن الصحافيين منخرطين مع الناس ونشاطر الناس المعاناة التي يعيشها جميع أفراد الشعب في شمال قطاع غزة. 

 أنا آكل الرز بدون خبز، وفي ظل شغلي المتعب وعملي الصحافي أنا آكل الأرز فقط. عندي ما يقارب 5 كيلو أرز. كنت أطبخ القليل منه، فأنا أحضر كل شيء لنفسي من أكل وملابس وغسيل وكل شيء، وبصعوبة بالغة حتى وجدت مكانًا أسكن فيه.

في الشمال لا طعام، وجبة واحدة التي نأكلها أنا عشت 45 يومًا، على العوقة، هل تعرفون العوقة ؟ والحلويات؟ أنا هذا كان غدائي لـ45 يومًا. لا أحد يعلم ذلك. كنت أمشي وفي حقيبتي 10 حبات عوقة، تكفيني العوقة وهي عبارة عن عبوة صغيرة يا بسكوت يا عوقة هذا ما كنت أعتاش عليه. تغيرت طريقة توجهي للطعام، فالآن أنا لا أرفض أي شيء، وأكره الصحن الفارغ. ولكن أكثر أكلة كانت مفضلة عندي قبل الحرب هي أكلة الملفوف، هذه الأكلة مشهورين نحن فيها بغزة، أكلة الملفوف. 

اقرأ المزيد

اقرأ المزيد من قسم شهادات

الوسوم

شارك


المصادر


x