الليلة الأخيرة في شارع الوحدة وتطويق مستشفى الشفاء



الوقت المقدر للقراءة: 9 دقيقة
منذ 9 أشهر

11 نوفمبر تاريخاً لن أنساه ما حييت، ليس لأنه تاريخ مميز، ولكن لأننا كنا على شفا الموت، لا أعلم كيف نجونا والذاكرة لن تغفر لنا لو نسينا ما حصل لنا آنذاك.

حل الليل، وتتصاعد وتيرة أصوات الاشتباكات، وتزحف الآليات رويداً رويداً لتحقيق هدفها المنشود: اقتحام مستشفى الشفاء. تجمعنا مع النازحين سوياً في نفس الغرفة في محاولة بائسة للنوم. ولكن لم أستطع النوم لحظة واحدة، لقد كان يفصل بيننا وبين خط سير تقدم الدبابات شارع واحد فقط!

أطول ليلة عشتها في حياتي

أتذكر هذا اليوم كأنه الأمس، والله لا أتذكر الأمس بقدر ما أتذكر هذا اليوم. ليلة العاشر والحادي عشر من نوفمبر كانت الليلة التي احتدم فيها القتال على امتداد شارع النصر مع تقاطع شارع الشفاء، إنها ليلة التقدم السريع للدبابات نحو مستشفى الشفاء. لقد حوصرنا! من أين المخرج؟

عزلة عن العالم

لقد كنت حينها في عزلة عن العالم، لا أستطيع الاتصال بالإنترنت، ولا أملك أي وسيلة حتى أعرف ماذا يجري وأين أصبح تقدم الآليات. لقد كان يغامر الرجال ليقدّروا المنطقة التي وصلت إليها الدبابات.

في الليل انهالت عليّ الاتصالات المحمومة: إنهم يتقدمون نحو مستشفى الشفاء يا مجنونة ماذا تفعلين حتى الآن في شارع الوحدة!

لقد فات الأوان

فإما أن نموت أو سيكتب لنا عمر جديد! نحن الآن تحت النار، ولا يمكننا الخروج. لا أعتقد أن أحداً استطاع النوم في تلك الليلة ساعة متواصلة. ولكن قررت أن أنام، كنت أعتقد أنني لو مت وأنا نائمة فلن أتألم. أغمضت عيناي قليلاً حتى أغارت الطائرات الإسرائيلية على هدف لا أعلم ما هو، ولكن كادت أذني اليسرى أن تنفجر من قوة القصف، وقدّرت أنه على بعد أمتار قليلة منا. شعرت حينها أنها ليلتنا الأخيرة. وأرسلت الرسائل الوداعية لكل الذين أحبهم، لقد كنت أرسلها والدمع يجري في عيني.

ليس لدينا الكثير من الوقت، أسرعوا!

لا أدري كيف غفوت، ولكن غفونا من الإنهاك النفسي، حتى أيقظتنا أصوات الاشتباكات التي تقترب في مطلع الفجر. يجب أن نتصرف، أين نذهب؟ الاشتباكات لم تتوقف طوال الليل وحتى ساعات الصباح الأولى، وهنا وقعت المصيبة!

يوم الفرار الكبير

في تمام الساعة التاسعة، حزمنا حقائبنا للاستعداد للمغادرة! فجأة وبدون سابق إنذار ألقوا القنابل الصوتية والدخانية في محيط شارع الوحدة. هرعنا جميعاً إلى إحدى الغرف البعيدة. لم أعد أستطيع التفكير، ولا نستطيع أن نخرج والآليات أصبحت قريبة، كما لن تستطيع السيارات الدخول إلى المكان الذي نحتمي به. واتصلت بصاحب السيارة التي ستُقلنا، ولكنه رفض وقال: لن أخاطر بروحي، وأدخل شارع الوحدة!
بعدها انقطعت شبكة الاتصال!

الصليب الأحمر المخلّص

خرج أحد الرجال متوخياً الحذر لفحص المنطقة، لربما يجد طريقاً آمناً من شارع الوحدة أو شارع الثورة لنخرج من هناك، ولكن فور أن سمعنا أصوات القذائف وجدنا الرجال عائدين إلينا ويصيحون: لقد قتلوا المدنيين الذين يهربون في الشارع، إنهم ملقون على الأرض.

هنا أيقنت يقيناً لا يخالطه أي شك أننا ننتظر مصيرنا المحتوم. لا أدري كم مرة نطقت الشهادة في ذاك اليوم.

اتصلنا بأرقام الصليب الأحمر ظناً منا أن أحداً سيهرع ليخلّصنا. أجرينا مكالمات متواصلة حتى أجاب أحدهم بكل برود، وأخذ أرقامنا وعنوان المنطقة التي حوصرنا فيها، ثم أخبرنا بتململ أن نتصل بأرقام أخرى لهم. لم أتصل أنهم مخادعون.

باص النجاة والإجلاء إلى شارع الجلاء

قرر الرجال أن يشغلوا إحدى الحافلات التابعة للمؤسسة، ونقلنا إلى أقرب منطقة آمنة. لقد كانت مجازفة، ولكن لم يعد أمامنا حل آخر. ليكن سنركب الباص والحامي الله. مزقنا قطع قماش بيضاء، وربطها بعصي خشبية لصنع رايات بيضاء وحملها معنا. تحرك بنا الباص وفجأة تعطل عن العمل في منتصف الشارع! في منتصف شارع الثورة الخالي من البشر، ولا يوجد فيه سوانا والباص لا يتحرك. والحيوانات مقتولة وملقاة على جانبي الطريق. والسماء تلونت بألوان الأدخنة المتصاعدة.
يا ربي ماذا نفعل! خرجنا من الباص، وواصلنا المشي على الأقدام نحمل الرايات البيضاء.

حينها قلت: لا يمكن أن ننجو مرتين، طائرة الاستطلاع سوف تستهدفنا لا محالة. قمت بتثبيت عيني نحو قدمي فقط، وأنا أتمتم بالدعاء.

واصلنا المشي نحو شارع الجلاء. نجونا والله نجونا، لقد كنت أضحك من الخوف!

اقرأ المزيد

اقرأ المزيد من قسم شهادات

الوسوم

شارك


المصادر


x