عن صمت غزة الذي يقتلنا
لقد صارت غزة منذ أسبوع مجدداً صامتة تماماً، لا شبكة اتصالات ولا حتى أصوات رحيمة يتبادلها الناس داخل المدينة فيما بينهم، صمتٌ يهطل من السماء من هول كل شيء، فتكون غزة تلك الضائعة التي تقطعت بها سبل الحياة والنجاة حقا وليس استعارة، أحاول تخيل عائلتي الآن وهم مجتمعون في بيت واحد بعد أن قصف الاحتلال منزل العائلة الكبير في مخيم المغازي بعد ساعات قليلة من نزوحهم، صاروا قرابة خمسين شخصاً في حيز صغير كما هو حال كل أسر غزة الآن.
أحاول تخيل يد عمتي وهي تليّن العجين، وتضعه في الفرن الطيني ليصير خبزا عليه أن يطعمهم كلهم، وأحاول أن أتجاهل خوفي من أي يكون الطحين قد نفذ لديهم أصلاً، أقنع نفسي برائحة الخبز تفوح بينهم، فتدفئ جوعهم قليلاً الآن.
أتخيل أخي وهو يعبر طريق البحر الطويل، وهو يحمل زجاجات الماء الكبيرة التي قد لا تروي العطش، ولكنها تبلّل الحلق الجاف من الصراخ والدعاء قليلاً، وأهرب من فكرة تطغى في كوابيسي أحياناً أن لا ماء في الطرقات، ولم يعد في غزة مصدر للماء إلا البحر، وحده المدى المفتوح الذي لم يغدر بقلب غزة المجروح.
عندما ينقطع الاتصال عن غزة يولد بعدٌ آخر للحرب، بعدٌ من الأوهام التي تسحبنا كما الثقب الأسود، تصير عقولنا قادرة على رسم سيناريوهات كثيرة، بعضها يطمئن القلب وبعضها يوقظه مفزوعا وتائهاً.
أتخيل أولاد ابن عمي الصغار في حضن أبي يروي لهم ربما حكاية من حكايات فلسطين الشعبية التي احتفظنا بها في كتاب بقي في بيتنا شبه المحروق والمهجور في غزة. أحياناً أخرى تهطل دموعاً ساخنة من عيني فجأة، وأنا أتخيل خوف أبي وهو يسمع اقتراب دبابات العدو إلى حيث يسكنون. أكاد أرى نفسي بجواره روحاً لا يراها، ولكنها تحاول أن تطمئنه.
لقد مضى أكثر من مئة يوم، ولا أعلم إن عادت الأوجاع المزمنة لأبي، وقد كان على موعد مع عملية جراحية قريبة.
قبل أيام التقيت صديقتي التي حدثتني عن وفاة ابن عمّها أمام أعين أهله ببطء؛ بسبب عملية جراحية بسيطة لم يستطع إجراءها من شح كل شيء في الشمال. تغيب تلك القصص لمهزومين من ظلم الحياة، تضيع تفاصيل الضياع اليومية في زحام دماء الشهداء، وننسى أن حياة عادية وبسيطة وأليفة توقفت بالكامل في غزة.
تنقطع الاتصالات مجدداً، فتتأخر أخبار الشهداء، وننتظر كما ينتظر الغريق قارباً ما يحمل أخباراً لنا من هناك، يحمل لنا صوت أهلنا المتعبين، صوت أطفالنا الجائعين، نشتاق إلى الأصوات التي تصفعنا فتذكرنا بكلماتٍ لا نستطيع قولها وأحلام لا نستطيع تحقيقها.
لا أعلم متى سأسمع صوت أهلي مجدداً، فأخبر أبي أني حلمت به وأني حاولت أن أوصل له حضوراً ما عبر الليل يخترق الأمكنة. متى سيأتيني صوته وهو يقول لي الحقيقة، ويطردُ عني شبح الأوهام الثقيل، هل جاعوا وعطشوا، هل ناموا دافئين؟ هل بكوا في الليل، ودعوا الله بخلاص قريب؟
هل تتقلص أحلامنا إلى حدّ اتصالٍ ما قريب، فتهدأ الروح قليلاً؟ وهل يُنسينا شوقنا للصوت شوقنا لانتهاء كل الموت في غزة.
بالطبع لا. فربما يأتي الصوت مجدداً محمولاً بتكبيرات وحمد مغسول بالدموع أن الحرب قد انتهت أخيراً وأنهم بخير..
ربما.. ذلك جلّ ما أتمناه في عالم غريب ذبح قلوب الغزيين، وشوقهم وتركهم متلهفين حتى الأبد لأبسط الأمنيات.