الحياة بعيدة جدا من هنا، تعود إلى سنين طويلة للوراء، منذ كنت في المدرسة الإعدادية، حين التقيت الشيخ يوسف سلامة لأول مرة، حيث كنت طالبة في إحدى منظوماته الرفيعة في مدارس الأوقاف الشرعية للبنات، كان هذا المشروع جديدا ولافتا، حيث يتلقى فيه الطلبة العلم الشرعي إضافة للعلوم الأخرى وفقا لمنهاج التربية والتعليم، مع خدمات مميزة تقدمها تلك المدارس المجانية لذوي المعدلات المرتفعة فقط، حيث سجلنا خالي أنا وأختين أكبر عمرا مني، وكل ذلك حدث بصدفة بحتة في العام الذي توفي فيه والدي.

المهم أن الشيخ يوسف كان وزيرا للأوقاف آنذاك، وكان يزورنا ومعه كبار الشخصيات ليطلعهم على هذا المشروع، وزارنا ذات يوم ومعه الرئيس الراحل أبو عمار، وكنت- وكما جرت العادة- من ترحب بضيوف المدرسة، وتلقي كلمتها، الأمر الذي كان يدعو لفخره بنا بين الناس دائما، حتى صار يطلب مني ذلك، أنا وأخواتي البنات أيضا.

صوته وقامته وإطلالته وتقديره وكلامه، كان دائما ما يثير اهتمامي وخشوعي وأنا الصغيرة آنذاك، حتى طلبت من أمي زيارتهم في مخيم المغازي، حيث صرنا صديقات لبناته لاحقا بحكم زمالتنا في المدرسة، وزرناهم وتعرفنا إلى هذه العائلة الكريمة، وكانت هذه أول مرة أزور فيها مخيم المغازي.

واتسعت جغرافيا المغازي حين تعرفت إلى هناء في أروقة العمل، فكبر في قلبي هذا المكان، وبدأت أشعر بالانتماء لجغرافيا جديدة فيها أحبة وأصدقاء ومعارف، بدءا من مرحلة المدرسة مرورا بالعمل، حيث الزمالة تصنع أفقا جديدا لمعرفة الآخرين، وتتضح الأماكن في ذاكرتك بوعي وبمواقف وبطبيعة الأشخاص، ومن خلال هؤلاء اتضحت صورة المغازي وأهلها، فهناء مثلا كانت تحب بيتها لدرجة أنها تمنت الموت على تركه، لكنها للأسف اضطرت لذلك من عدة أيام.

ثم تتضح الصورة أكثر، حتى رأيت أهل المغازي، وهم يحملون شهداءهم، رأيت أشخاصا في منتهى الرقة والعذوبة يبكون صغارهم وكبارهم، رأيت رجالا يكتمون الدموع، ويكملون البحث عن أقربائهم تحت الركام، وأصدقاء ينامون بجانب جثامين رفاقهم يوشوشونهم علهم يعودون إلى الحياة، هكذا نما في قلبي، واستقر هذا المخيم، وفي الحقيقة أنا لا أشك في أن المخيمات كلها بذات الرقة والتعلق، فمثلا كيف يبدو مخيم البريج حين تشرق عليه الشمس، فتلمع في عينيه، وكيف يبدو مخيم النصيرات والشمس ترخي جدائلها عليه كي ينام مساء، وكيف يبدو مخيم الشاطئ، وهو يلاعب البحر، فيدِّلك له قدميه.

وبعد كل هذه المقدمات الطويلة، فإنني أخبركم وبكل بساطة يندى لها جبين الشعوب، بأن هذه المخيمات تعرضت وتتعرض لإبادة وتدمير لم يشهد له مثيل، والأكثر حزنا أن الشيخ يوسف قد استشهد وزوجته بقذيفة على منزلهم، بينما أرسلت لي هناء رسالة تقول فيها: البيت راح يا هبة..

  • للمزيد من تدوينات هبة الأغا (اضغط هنا)
تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *