هذه شهادةُ صديقتي تسنيم أسامة ناجي، قامت بتسجيلها لي وأنشرها بحذافيرها مع تعديل اللغة إلى الفصحى فقط، وما وُضع بين علامات تنصيص فهي تعابيرها باللهجة العاميّة بشكلٍ حرفيّ. هذه شهادات أهل قطاع غزّة على المجازر والمذابح الصّهيونيّة بحقنا. على لسان تسنيم:

23 أكتوبر..يوم تغيّر كلّ شيء

نحنُ لا نُخلي بيوتنا بالعادة في الحرب مهما كان الخطر، لكنّ عمّتي أصرّت على عائلتي لكي ننام عندها ليلة واحدة، وكنّا أنا وجنان خائفتين من منطقة بئر النعجة، فأصرّينا على الذّهاب وصرنا نقول: يلا يلا! سبقنا نحنُ وذهبنا أوّلًا، ثمّ تبعتنا بقيّة العائلة. وكانت عمتي قد حضّرت [رزّ بحليب] وجلسنا [نتخرّف] ونضحك سويًّا، حتّى في ظلّ الموت، وبعدها خلد الجميع إلى النّوم. كنتُ دائمًا في الحرب أدعو في قيام الليل: إذا صار هنالك قصفٌ علينا ألّا أحسّ بألم! وكنتُ أشعرُ في داخلي أنّ هذه الحرب لن يسلم أحدٌ منها إطلاقًا.

تخيّلتُ أن أنام فأستيقظ وأعود إلى بيتي، ولكن ذلك لم يحدث. نمتُ وصحوتُ لأجد فوق ساقي اليمين جدارًا مهدّمًا وتحتي جدارٌ أيضًا! ظننتُ أنني في حُلم فنمتُ، ثمّ صحوتُ مجددًا لأجد نفسي في ذات المكان ولم يتغيّر! الدّم ينزفُ من ساقي اليُسرى، والرّكام والغبار يملآن شعري وفمي، حاولتُ أن أحرّك ساقي اليُمنى، ولكنّني لم أستطع أن أُخرجها، فصرتُ أبحث عن هاتفي الذي كان تحت وسادتي، وبدلًا من أن أجد وسادتي وفرشتي، وجدتُ جدارًا تحت رأسي! ولم أكن قادرةً على التفوّه بكلمةٍ واحدة.
سمعتُ أحدهم يُنادي: “في حد هان؟ في حد عايش؟”، ثمّ قال: “كلهم ميتين اطلعوا اطلعوا”، فاستجمعتُ قوّتي وصرتُ أنادي: “أنا أنا ساعدوني ساعدوني”
: هيها هات الشّيالة، قادرة تطلعي حالك يا عمو؟
: مش قادرة طلّعني، مش قادرة كل جسمي بجعني
وعندما سحبوني صرختُ بكلّ صوتي. دائمًا كنتُ أتساءل:
كيف يكون شعورُ من هم تحت الأنقاض، هل يستطيعون التنفّس؟
وعندما فتحتُ عيناي، وجدتُ أناسًا كثيرين حولي أعرفهم ولا أعرفهم، كانت السّاعة الثّانية عشرة ونصف ليلًا، نظرتُ إليهم، ثمّ أغمضت عيناي.

أبوي قوتي وأبوي راح!

لم أعد أستطيع الرؤية، وظلّت عيناي مغمضتين لثلاثة أيّام، حيث أُصيبت عيني اليسرى بشظيّة مباشرة، وأُصيب حاجب عيني الأيمن بشظيّة، وبدأ الجميع بالاعتقاد أنني فقدتُ نظري، لكن الحمدُ لله، كنّا ببركة الله وطاعته وبركة حفظنا للقرآن الكريم، فأُجريت لي عمليّة وتمكّنت من استعادة نظري ولله الحمد!

كنّا في المستشفى الإندونيسيّ، ولم يكن قد أخبرني أحد بعد أنّ والدي قد استشهد، قالوا لي عندما سألتُ عنه أنّه في غيبوبة، ولا أستطيع أن أراه، ومرّ عليّ أسبوع على هذا الحال، وكان يتمّ سحب عينات دمٍ منّي كلّ يوم، وكان وجهي مُحترقًا ويؤلمني كثيرًا، حتّى إذا توقّفت “الهوّاية” بانتهاء السولار أبدأ بالصّراخ من قسوة الألم!
وفي يومٍ تجمّع الكلّ عند والدتي، وشعرتُ أنّ هنالك شيء ما يحدث، بدأتُ أقول لهم: أستحلفكم بالله أن تقولوا لي الحقيقة، فجاءت زوجة عمّي وقالت: ” أنت حلّفتيني بربّي، أنت حافظة ١٤ جزء من القرآن وأبوكِ بفتخر فيكِ”، فهمتُ أنا مقدّمة كلامها، قلتُ لها: “من الآخر راح؟”، قالت: “راح”.

“خلص أنا يتيمة مش رح أشوف أبوي، مش رح أحضنه مش رح أبوسه، رح أكمل أجزاء بدونه، كيف ح أكمل طريقي!”
ردّت: “أنت قوية”، قلتُ: “أبوي قوتي وأبوي راح!”
بكيتُ كثيرًا وصرختُ كثيرًا، وكلما تذكّرتُ هذا الموقف أبكي أكثر، وحتّى اليوم أبكي، ومهما ضحكنا فقلوبنا تبكي. علمتُ بخبر استشهاده في بداية شهر نوڤمبر، وكان عيدُ ميلاده في 12نوڤمبر!
وسألتُ بعدها عن أخي صُهيب، قالوا لي أنّه حيّ ولكنّه في غيبوبة.

وعندما زارتني لانا كنتُ مكتئبةً جدًّا، ولانا هي صديقتي المقرّبة حتّى أنّها أقرب إليّ من رُوحي من بعد والدي، هي أختي وكلّ شيء في حياتي، حتّى أعتبرُ والدتها مثل والدتي! كنتُ أودّ أن أحتضنها ولكنّ حوضي كان مكسورًا، وساقي مكسورة فلم أستطع إسناد نفسي، وجلست لانا بجانبي مع أنّها تُصاب بدُوار عند رؤية الدّم في المستشفيات، وأغمي عليها بالفعل ولكنّها أبت أن تُغادر جانبي! يا ليتني عانقتها في ذلك اليوم، لأنّها كانت آخر مرّة أراها فيها! ولكنني كنتُ أتّصل بها دائمًا، و”بخرفها” كلّ شيء، كانت تهوّن عليّ فُراق والدي كثيرًا، ودائمًا كنتُ أدعو: يا ربّ نموت مع بعض.

أنا بنت الشّهيد

أخبرتني ابنة عمتي أنّ أخي صُهيب استشهد وهو رافع إصبع السبّابة. أصابتني حالة تبلّد، لم أصرخ ولكنني بكيتُ كثيرًا. صُهيب كان أكثر من أخ بالنّسبة إليّ، كان يحفظ جزء عمّ من القرآن الكريم، فإنّ والدي قد ربّانا على حفظ القرآن، ولن تجد أحدًا من بيتنا إلّا ويحفظ ولو جزءًا! والدي علّمنا حبّ الشهادة، وعلّمنا حُبّ المقاومة، وأنا ممتنّة له لأنّه ربّانا هكذا، كنتُ أفتخرُ به وهو على قيد الحياة، وأفتخرُ به الآن، أنا ابنة الشّهيد أسامة ناجي الملقّب بأبو مصعب، وأخت الشّهيد الملقب بأبو إبراهيم، أنا تسنيم بنت الشّهيد.
دائمًا كنتُ أتأمل والدي وأقولُ في نفسي: إذا استشهد كيف سأُكمل من دونه؟ واليوم أقول: صعبٌ جدًّا، لكنني سأحاول، وسنزوره كثيرًا وسنخبره بكلّ ما يحدث معنا.

الجُند في المستشفى

بقينا في المستشفى الإندونيسيّ، وكانت تأتي باصات لتأخذ النّازحين والمرضى والأطبّاء إلى الجنوب، لكننا لم نستطع أن ننزح، ففي ساقي أربعة كسور وتحتاجُ إلى بلاتين داخليّ! ولم يتبقّ في المستشفى إلّا 150 شخصًا فقط. وقبل دخول الهُدنة بيوم، كانت ليلةً جنونيّة، صار الاحتلال يرمي القذائف ويضربُ بكلّ قوّته، كانوا يريدون اقتحام المستشفى من البوابة التي ننام عندها!

شيماء بدأت بسحبنا على الأسرّة وصرنا نركض لنبتعد، وكلّ المستشفى تكوّم في مكانٍ واحد، ما عدا الذين هُم في الطّابق الثّاني، ثمّ دخلت علينا طائرة هيلكوبتر، وأخذت تصوّر وتأخذ بصمة العيون ونحن نرفعُ أيدينا وهي لا تحمل أيّ سلاح، ثمّ صاح الضّابط: “الزّلام يصفّوا عالشّمال والنّسوان عاليمين”، وفعلنا لأننا لا نملك خيارًا آخرًا؛ فإما إطاعة أوامره أو الموت! وبعد فصل النّساء عن الرّجال جاء ممرّض من الطّابق العلويّ لم يكن قد سمع ما أمر به الضّابط، وجاء مسرعًا إلى جهة النّساء، فقام جنديّ عُمره لا يتجاوز العشرين سنة، وأطلقَ النّار عليه، حتّى سقط ينزفُ على الأرض، ولم يسمحوا حتّى لأحد بمساعدته، حتى صعدت روحه لخالقها!

وقاموا بتعرية من هُم فوق العشرين من الرّجال، وصاروا يصرخون بحثًا: “أبو الأمير وينه؟ أبو الأمير معك 3 ثواني لآخر مرّة”، فردّ الرّجل المسكين: “هيني هيني..مصاب مصاب”، وكان مُصابًا مجروحًا وعظامه مكسّرة والبلاتين الحديديّ في كلّ موضعٍ من جسده وهو على سرير المستشفى، وبعد أن وجدوه انقضّ عليه أربعة منهم يضربونه ضربًا مبرّحًا، وقفزوا على جسدِه المُنهك، وضربوه بأعقاب البنادق حتّى تدفق الدّم منه، وبعدها أخذوه إلى مكانٍ آخر، ولا يعرف عنه أحدٌ خبرًا بعدها.

[روت لي رغد والدّموع لا يتوقّف جريانها من عينيها المُتعبتين، وأقسمتْ لي أنّ هذا المشهد كان أصعب عليها من رؤية والدها أشلاء!]
عانقنا بعضنا البعض بعد خروجهم، ونحنُ ما زلنا على قيد الحياة.

الكُسور في الجنوب

بدأت الهُدنة وذهبنا إلى مستشفى كمال عُدوان، ومنه نزحنا إلى الجنوب، وذهبنا إلى مستشفى ناصر وقام بتحويلنا إلى المُستشفى الأردنيّ، وهناك أجريتُ عمليّتي، حيث كانت الكسور الأربعة في ساقي قد لحمت بشكلٍ خاطئ، فقاموا بكسرها ووضعوا بلاتينًا خارجيًّا ليجبر العظم بطريقة صحيحة، وأمّا بالنّسبة لحوضي المكسور فإنّه جبر دون الحاجة إلى عمليّة ولله الحمد! وقد أحببنا الأردنيين كثيرًا، كانوا “لزيزين وصحابنا وأحبابنا وقرايبنا”.

وبعدها..عرفتُ بخبر استشهاد لانا. كذّبتُ الخبرَ لثلاثةِ أيّام، لأنّ لانا يستحيل أن تتركني! ما زال لديّ أملٌ أنّها على قيد الحياة، أنا أحبّها كثيرًا ولا أستطيع العيش من دونها!

جئنا إلى رفح، وها نحن ذا! الحمد لله ولكننا مرهقون جدًّا، و”نفسيتنا مش كتير منيحة”، كلّ العائلة قد استشهدت، في كلّ يوم أشاهد أبًا يزور ابنته أسأل نفسي: “أنا وين أبوي؟ كيف أبوي سابني؟ كيف ما ودّعتوش!”

مُعجزة!

هنالك الكثير والكثير من التّفاصيل، ولكن هذا ما استطعتُ وصفه. كلّ شخص من عائلتي لي معه صورٌ وذكريات، بابا، صهيب، عمتو إيمان، ابن عمّي عديّ الأقرب إليّ، مريم، فهد، فؤاد، باسل، أحمد، مريم..
رحمهم وآنسهم الله، أدعو الله أن استشهد أنا، فلقد تربّيتُ على حبّ الشهادة! لماذا استشهدوا هم ولم أستشهد أنا! ولكن:
“طلعت من تحت الأنقاض..يعني مُعجزة!”

يُذكر أنّ رغد أختها لتسنيم شاهدت ارتقاء بنات عمّتها اللواتي كنّ بجانبها في يوم الاستهداف، واحترق جسدها حتّى ذابت عنها ملابسها وقام زوج خالتها بتغطيتها! زوج خالتها الذي استشهد بعدها.
كلّ من كان معها استشهد، ونجت هي بأعجوبة، حتّى أنها فقدت قدرتها على الحركة لفترة، وتقومُ اليوم رغد برعاية والدتها وأختها لأنّهما لا تستطيعان الحركة.

تشارك:

1 تعليق

  • Avatar غير معروف
    غير معروف
    17 يناير، 2024 في 18:39

    يا رب نصرك

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *