نشرات الأخبار القادمة من خانيونس في هذا البرد غير عادية، اشتباكات في محاور التوغل، قصف وحصار لمدارس تأوي نازحين، ومطر يغرق الخيام ويبلل الٱجساد والأغطية، وأنا أتكور حول نفسي، يأكلني قلبي على عائلتي البعيدة المتناثرة في أرض المواصي، وأنا هنا في غرفة منزوية في هذا الصقيع، مع عائلتي الصغيرة في مدينة رفح.

أتساءل وكل ما يحدث أكبر من المخيلة، ويؤلمني كيف يقضي شهر يناير وقته في حارتنا القديمة، كيف يبدو المكان الآن وشهر يناير ينسحب من الزمن بلا تلك الجلسات الدافئة حول كوانين النار مع الخبز المحمص وزبدية من المريسة المصنوعة من الكشك المجفف، وجلسات التهام البطاطا الحلوة ودفء الشاي الساخن، والأهم كيف يقضي أهل حارتنا شتاءهم خارج يناير الذي يعرفونه، وخارج حدود حارتنا الوديعة، كيف يقضون شتاءهم الحزين في بقع النزوح، وفي المصائر الجديدة، وفي مفاجئات القدر الصادمة.

هذه الحارة التي تمتد بشكل طولي من بيت العم أبو سامر ومعمل الطوب على الجهة الشمالية للداخلين وبيت العم المرحوم أبو حمدان وأبنائه، مرورا ببيت العم المرحوم أبو علي، وفي اليمين تتراص بيوت آل العم المرحوم أبو سامي والعم أبو محمد يعقوب والمعصرة وبيت العم مصطفى طاهر والمرحوم يوسف طاهر وبيت الحاج المرحوم أبو عاطف وبيت العم المرحوم أبو فتحي وأبناؤه والعم المرحوم أبو صالح وأبناؤه ثم تتدحرج إلى بيت العم عوني وخلفه بيوت المرحومان الشيخ سعيد والعم رشدي، وبيوت العم سليمان وأبناؤه وبين العم المرحوم أبو هشام وأبناؤهم، ويكمل السائر للغرب فيقابله الديوان الجديد وبيت العم المسافر محمد نجيب حتى يصل إلى منزل الحاج عبد الحميد والحاج عبدالله وأبناؤهم، ومنزل الحاج نايف ومنازل بقية أبنائه إلى الغرب ومنازل أبناء الحاج يحيى إلى اليمين، وأخيرا منازل أبناء الحاج صقر.

هذه الحارة القديمة جدا بُنيت قبل النكبة، واستقبلت وقتها لاجئين من قرية بربرة من عائلة أحمد، وسكنوا مع أهلها في المنطقة الواقعة مابين الجزء الشرقي والجزء الغربي للحارة، عاشت بينهم سيدة تقية اسمها ٱم ابراهيم، كانت قابلة الحارة فيما بعد، وهي التي وقفت على ميلاد اخوتي جميعا، ومعظم أبناء الحارة،حتى توفيت فيها، ثم قبل سنوات، خرج معظم أبناء عائلة أحمد للعيش في مناطق جديدة، وبقي هذا الجزء فارغا بلا سكان، وتحول إلى مساحات زراعية على جانبي الطريق.

ينهمر المطر في شارعنا الرملي من بداية الشارع ويتكوم السيل الطيني في آخره، و تنتشر في شارعنا أشجار النخيل القديمة والزيتون والبرتقال والتوت والرمان وحمام بندورة وحيد، وشجرات ياسمين وفل وتمر حنة وشجر ظل وتمور، وليمون، وحقول قمح وأحواض نعنع وجرجير وبقدونس وزعتر، وفي حارتنا دجاج وأوز وسلاحف وقطط وعصافير وماعز، في حارتنا القديمة أبواب خشبية قديمة أشهرها “الباب البراني”، ومكان اسمه” بايكة دار أبو فتحي” ثم إلى الغرب مجموعة من الأحواش.

في حارتنا ذكريات عائلة كبيرة عمرها من عمر جدنا الكبير حمدان، وفي حارتنا ذكريات عائلتتا الصغيرة، عائلة أبو عاهد ببناته السبع وأولاده الثلاثة، وفي حارتنا أحفاد عرفوا قيمة الأجداد، وعمات وأعمام وأخوال وخالات، واحتفالات ومواسم أعياد، وسهرات، وسماقية وأم علي، وكنافة عربية وفتة عجر، وفي حارتنا شهداء وشهيدات رحلوا مؤخرا دون وداع، وصار في حارتنا مؤخرا طريقا للجيش ولجرافاته ودباباته، ولجنوده الذين جاءوا من أصقاع الأرض ليطمسوا التاريخ والحياة والجغرافيا والحضارة، جاءوا لينتقموا من الذكريات، ومن الروائح، ومن الأعراس، وجاءوا لينتقموا من الأرض والخضرة والشجر، وجاءوا ليفرقوا أهل الأرض في أماكن لا يعرفونها، وهم يحملون أمل الرجوع في كل يوم، وفي كل لحظة، فيم يعيشون الخوف الغامض المتكرر وأسئلة لا أحد يجيب عليها:

هل الحارة وبيوتها بخير؟


تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *