حبيبي وأنيسي ورفيق دربي وأغلى ما أملك في حياتي، أيّ شخص عرف أنس كان يشهدُ له بطيبة قلبه ولُطف تعامله مع الصّغير قبل الكبير، كان مثابرًا حنونًا مبتسمًا دائمًا، وكان صاحب أحلام كثيرة، يحبّ الحياة ويعتني بكلّ التفاصيل، أنس لم يُحزنني أو يجرحني بكلمةٍ يومًا، حنونٌ بشكلٍ لا يُوصف، كان مدلعني [يدللني] كأنني ابنته، ويخاف عليّ من نسمة الرّيح.

بدأت الحرب في 7 أكتوبر فنزحنا من بيتنا إلى بيت خالي، وبالرّغم من أنّ أهل أنس نزحوا إلى الجنوب إلّا أنّه لم يقبل أن ننزح معهم، فقد كنتُ على وشك الولادة وفي أيّ لحظة قد يجيء المخاض، وفعلًا في 17 أكتوبر أنجبتُ ابني وقرّة عيني، كانت فرحة أنس لا توصف، وخوفه عليّ كان غير معقولًا! حتّى أنّه قال لأخته: “يوردي عليا..مالها غدير وجهها أصفر أصفر!”. وطمأنته هي بأنّ ذلك طبيعيّ بعد الولادة وأنني متعبة. بتنا ليلتنا بالمستشفى وفجر اليوم الثّاني خرجنا منه، اعتنى بي وبابننا، ولم يكن يتركنا دقيقة واحدة.

وفي 30 أكتوبر بكيتُ كثيرًا وأنا أرجوه أن نذهب للجنوب، وكنتُ أبكي وهو يضحك! بكيتُ كثيرًا حتّى جاء هو وأخوالي يقنعونني أنّ المكان الذي نحنُ فيه آمن، ومن المستحيل أن يحدث شيء لنا. وفي تلك الليلة كان أنس سعيدًا جدًّا، قام بتوزيع الشوكولاتة علينا، وتمدد بجانبي وقبّل يديّ، وظلّ مستيقظًا طوال الليل يعتني بي وبابننا، وفي 31 أكتوبر استيقظنا كالمعتاد، تناولنا الفطور وجلسنا، ولأوّل مرة في حياته يرتدي أنس “جلبيّة”، وسألني: “كيف الجلبية يا مرتي؟ عادي أنزل ع الشارع هيك؟”، أجبته: “اه حلو..مشّط شعرك وانزل”، فعلًا قام أنس ومشّط شعره ونزل، وبعد ثلاث دقائق من نزوله وقع القصف الذي استشهد فيه هو وأخوالي..ذاتهم الذين أقنعوني في الليلة السّابقة أنّ هذا المكان آمن ولا يوجد ما يدعو إلى الخوف والقلق..استشهدوا جميعهم، استشهد أنس وعُمر ابننا أسبوعٌ واحد، فقمتُ بتغيير اسمه ليطابق اسمك يا أنس! لكي تبقى حاضرًا وموجودًا بيننا، لا أريدُ لأحدٍ أن ينساك!

أنس لم يفرح بالبيت ولا حتّى بابننا، ولم يفرح بأيّ شيء، كان يحلمُ بالكثير، كنّا سنسكنُ بيتنا، كان دائمًا يقولُ: “ابني حييجي غير شِكل، حيكون أحلى ولد، حيكون أشيك ولد بكلّ الدنيا، ابني حيكون كذا وكذا” [أي سيكونُ ابني مميزًا]، كان سيذبح له عقيقةً ويقيم له “أسبوع” من للاحتفال بقدومه.

أذكرُ في أوّل يوم للحرب قال لي أنس: “يا الله قدّيش كان نفسي أدخل جوّا مع إلي دخلوا” [يقصدُ أن يدخل إلى الأراضي المحتلّة]، قلتُ له اذهب معهم، قال لي وإذا ذهبتُ لمن سأترككِ! ذهب أنس وترك كلّ شيء خلفه!

أنس لم ينقص عليّ شيئًا واحدًا، وكان يعوّضني عن غياب أهلي؛ أمّي وأبي، كان لي أمًّا وأبًا وأخًا وأختًا، عوّضني عن كل شيء صعبٍ في حياتي، لم يُحزنني يومًا فقد كانت غدير عنده خطًّا أحمرًا، عشتُ معه أجمل أيّام حياتي، ولا أتوقّع أن أعيش أيّامًا حلوة بعد ذلك. أتعرفون ما هو أكثر شيء يوجع قلبي؟ أنّ ابني لن يعرف أبيه أبدًا، وحرفيًّا لن يتذكّر أيّ موقفٍ معه! هو لا يعرفه أبدًا! والدي أنا استشهد وكان عُمري أربع سنوات، ولا أتذكّر أي موقف معه، تخيّلوا حياة ابني الذي استشهد والده وهو عُمره أسبوع واحد فقط! الفكرةُ وحدها تحزّ الألم في قلبي، أنا أعرفُ معنى أن يكون الأب شهيد، أن يُحرم الطّفل من صوت أبيه، فيا ربّ أعطني القدرة على تربية ابني وألّا أجعله يحتاج أحدًا.

‏‎ثلاثة أشهر يا أنس، ثلاثة أشهر وأنا لم أستوعب فكرة أنني لن أراك مرّة أخرى، كلّ شيء حدث على عجل، خطبتني في وقتٍ كنتُ أحتاجُ فيه أن تعانقني الدّنيا كلّها..فجئتَ أنتَ!
‏‎حبيبي يا أنس..ممتنّة لكلّ شيء جمعني بكَ، اسمكَ كان بداية عوضي، تزوّجنا سريعًا وحملتُ بابننا “ركان”، ‎حملتني فوق رأسك [أحسنتَ إليّ]، صالحتني في زعلي، خفّفتَ تعبي، سهرتَ لمرضي، حتّى أشغال البيت قاسمتني إيّاها وساعدتني بها، وأنتَ تضحك وتقول لي: “المهمّ مبسوطة يا مرتي”، ولم تفوّت يومًا إلّا وسألتني: “بدّك إشي من برّا؟”

‏‎أنس ابننا الذي انتظرناه معًا صار عمره ثلاثة أشهر، أنا حزينةٌ أنّه سكبر من دونك، سأخبرهُ أنّكَ تحبّه أكثر من كلّ الدّنيا، وأنّك كنتَ تنتظره على أحرّ من الجمر، وكنتَ ستتحمل مسؤوليته معي في كلّ شيء، سأخبرهُ أنّ أبيك كان ينتظركَ يومًا بيوم حتّى يراك وأنت تكبرُ في حجره يومًا بعد يوم، وأنّه لم يكن لينقص عليكَ شيئًا أبدًا. يا ربّ أدعوكَ أن يكبر ابني في حضني طوال العُمر وأن أعوّضه عن غياب والده.

‏‎أُشهد الله أنّك عاملتني أحسن مُعاملة، ودللتني وأحببتني وأحببتكَ في كل يوم أكثر، ذكرياتي الجميلة معك منذ أوّل الطريق ستكفيني لأُكمل حياتي كلّها؛ عشتُ مغمورةً بحبّك وحنانك وغلاوتك، وربّنا رحيم سيحفّنا برعايته ولطفه، وسيصبّر قلبي على البعاد المُؤقت قبل أن ألحق بكَ، المُلتقى في الجنّة يا قلبي.
طلبتها ونُلتَها، تليقُ بكَ الشّهادة يا أبو أنس.

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *