أنا رُبا نزحت في الحرب خمس مرات، من بيت حانون إلى تل الزعتر، ثم معسكر جباليا، فدير البلح حيث نقلنا مرّتين، ورفح أخيراً.

كنتُ أفقد مع كل نزوح شيئاً من رغبتي في الحياة. تعبتُ من لملمة نفسي بين الأمكنة. أذكر أنّي وقفتُ في منتصف الطريق في دير البلح أثناء نزوحنا سيراً. أريد أن أمشي نحو بيتي لا إلى مركز إيواء. لا يهمني الموت. فهل تستحق الحياة كل هذه الشحططة سعياً إلى النجاة؟ تتردد في ذهني مقولة سيّدنا علي: “إن دُنياكم هذه أزهدُ عندي من عفطة عنز”.

والحرب هنا ليست حرباً واحدة، إنّما حروب. فهي حروب الماء والطعام والتنقّل… وحتى البرد. كنت قد عوّدت جسمي على قلة الطعام فلا يؤثّر فيّ لو اكتفيت بلقمةٍ واحدة في اليوم. ما كان صعباً علي هو شح المياه. يوم نزحنا أفراد أسرتي الثمانية وأنا إلى عيادة في معسكر جباليا، كان علينا أن نستهلك من المياه ما مقداره لترين فقط!

نشرب من هذين الليترين، ونغتسل، ونذهب إلى دورة المياه جميعنا بهما. أشرب مرةً واحدةً في اليوم، حتى لا أضطر إلى دخول الحمام. أوفّر نصيبي من ماء الشرب لأتوضأ به. صرت أتيمم لاحقاً.

نعيد في الحرب تدوير كل شيء. نحتفظ مثلاً بتفل القهوة، فنضيف عليه بعض الماء، ونتركه يختمر مدّة يومين قبل أن نغليه ثانيةً ونشربه. أيضاً مياه غسيل الملابس وجلي المواعين نحتفظ بها، لنديرها في دورة المياه – أعزكم الله! علب الأجبان والكاسات الكرتون نحتفظ بها لنحرقها ونطبخ على نارها. علب الشامبو وسائل الجلي نحتفظ بها لنملأها بالمياه، ونستخدمها عوضا عن الشطّافة. حقيبة الملابس نستخدمها مخدّةً. غطاء علبة المربى نستخدمه صحناً للأكل. ستارة العيادة استخدمناها غطاءً لنا، ثم لاحقاً لمّا وفّرنا بعض الأغطية صنعنا من الستائر خيمةً.

هكذا علّمنا العالم الزُّهدَ في الدنيا بأقسى طريقة ممكنة.

الكوميديا السوداء في الحرب؟ كثيراً ما أضحك وأبكي للسبب نفسه. بكيتُ بغزارة في بداية أزمة المياه في الشمال، فعلّقت أمي ضاحكة بأنّ دموعي تكفي لغسل وجهي وعليّ توفير المياه لشيء آخر. فضحكتُ. ثم لاحقاً بكيتُ في غرفة المعلّمات في مدرسة ابتدائية تتبع وكالة الغوث فيما كنت أنام تحت السبورة. كانت معلّقة في السقف فوقي سحابة كبيرة من القطن الذي غدا لونه رمادياً، وكان ثمة خيط أزرق اللون كأنه مطر يتدلى منها. كلما هممت للنوم أحدق فيها، وأضحك لبساطة الفكرة، ثم أبكي في لحظةِ إدراكٍ للوضع الذي جعلني أنام تحت هذه السحابة.

في يوم آخر، زارتنا عمتي في مركز الإيواء ومعها حفاضات لابن أخي الرضيع. قالت أمي إنّ مقاسها أصغر من مقاسه، ولكن لا بأس فبإمكاننا نحن البنات استخدامها بديلاً للفوط الصحية. هكذا يبكيني كل ما يضحكني.

كانوا في مركز الإيواء، أو المدرسة، هذا المكان المكتظ بالذل والقهر، يوزّعون علينا أربعة أرغفة “بيتا” في اليوم. نصف رغيف للشخص الواحد، والرغيف بحجم كف اليد. ثم بدأنا نشتري من المخابز إلى أن أغلقت، ثم بمعاناة اشترينا طحيناً، وصرنا نخبز بفرن الطين.

أما عن ذل دخول واحد من الحمامات التسعة المتوفرة في هذه المدرسة التي تضم آلاف النازحين، فالطابور طويل لقضاء الحاجة. كنت في البداية اضطر ألا آكل ولا أشرب كي لا أقف بالطابور، وكي لا أمشي في ساحة المدرسة أمام الجميع. كنت أخجل من وجودي هنا بوضعي المزري. كنت أتجنب مقابلة الناس، وكنت أتجنب رؤية نفسي في المرآة.

ألحّوا عليّ مرةً في أن أذهب إلى المستشفى الإماراتي القريب من مركز الإيواء لأستحم هناك. رفضتُ في البداية، فلم أتقبّل أن أخرج وأمشي في الشارع بهذا الحال. ولكني ذهبت في نهاية الأمر. لم أكن وحدي من يريد الاستحمام، ففي كل غرفة عشرة على الأقل ينتظرون دورهم ليستحموا فيما المسؤولون في المكان يلاحقوننا من غرفة يطردوننا منها إلى أخرى. شعرتُ بالذل، بكيتُ كثيراً، كما لم أبك من قبل، ولعنتُ الحمام والماء والحرب وعدت دون أن أستحم. عزَّت عليَّ نفسي كثيراً.

رأيت زميلاً لي من الكلية في مركز الإيواء. هذه أوّل مرة أقابله منذ تخرجنا في الكلية عام 2019. تواريتُ عن أنظاره لأني شعرتُ بالإحراج، وتمنيت ألا يكون قد رآني. وفي صباح اليوم التالي في طريقي إلى الحمام رأيته من بعيد واقفاً هناك على الباب. لا أستطيع تفسير ردة فعلي وقتها، لكنني لوّحتُ له من بعيد. لم يَرَني وظللتُ ألوّح حتى وصلته. سلَّمتُ عليه وتعمدتُ إطالة الحديث لأني كنت أحاول أن أثبت له ولنفسي أنني لست محرجة من هذا الوضع المُذِل، رغم أنني في الحقيقة محرجة حدّ الموت. أو من الممكن أنّ رؤية وجهٍ مألوف في هذا الوضع يجعلنا نشعر بشيء من المواساة! لا أعلم.

تعوّدنا على مركز الإيواء مع الوقت. فوضع المياه تحسن، وصرنا نطبخ على النار، حتى أنا المرفهة دائماً أصبحتُ أستيقظ باكراً لأشعل النار وحدي، وأغلي عليها القهوة أو الشاي. كما أننا اشترينا راوتر، واشتركنا بخط إنترنت. وصرت أشرب الماء متى عطشت وأذهب إلى الحمام متى شِئت، غير آبهة بمنظري أمام الناس في الساحة، وغير آبهة بكم سأنتظر من الوقت في الطابور.

اشتريت كريمات للبشرة لأهتم بنفسي كما قبل، وحصلت على كتب عدة لأقرأها هنا. لكنني مُرهَقة وخائفة. خائفة من أن تغدو هذه حياتي. خائفة من أن تنتهي الحرب، وتستمر هذه الحياة.

تشارك:

7 تعليقات

  • Avatar karim A.abbas
    karim A.abbas
    19 ديسمبر، 2023 في 21:15

    تفاصيل موجعه بحط نفسى مكانها ومؤلمة جدا.
    ذكرتنى كل تلك التفاصيل بمسلسل التغريبة الفلسطينية..صدمة النزوح وبعدها التعود على الحياة..عجيب ما تفعله بنا الأيام..
    الموجع ان الواقع ابلغ واصدق من مشاهد التلفزيون بل الاصعب معاصرة كل دا ولا يهتم العالم بك وبعدها نفسك تتعود والعالم يتعود
    ربنا يعدى الايام على خير وتنتهى الحرب وتعودوا سالمين.

    Reply
    • Avatar :(
      :(
      20 ديسمبر، 2023 في 13:37

      مرحبا ربا
      أكتب لكِ من الأردن، انا أيضاً تغيرت كثيراً في هذه الفترة وقد تعلمت الكثير، ربما ما قالته لي جدتي عن الذي حصل في النكبة قد شاهدته الآن يحصل، أرى جدتي في المنام تبكي لأجل فلسطين ولأجلكم، نعم بكيت كثيراً وانهرت كثيراً وفقدت نفسي أمام المشاهد وتغيرت نظرتي للكثير من الأمور وأصبحت إنسانة أخرى، إنسانة تسعى لمعاقبة هذا العالم، الكثيرون يقولون لي ابتعدي عن الأخبار، ثم أُفكر وهل دموعي وبكائي وانهياراتي النفسية شيء أمام معاناة أهلنا في غزة ؟ أصبحت أستصغر كل شيء في حياتي ولا أرى قيمة لجميع الأمور التي كانت تهمّني، أصبحت أتسائل لماذا نعيش ونحن نعلم أننا إذا أردنا أن نبحث عن حريتنا وسبيلنا الخاص سنُقتل ؟ هل حياتنا مهمة لهذا العالم المتوحش ؟ هل هناك قيمة لنا ؟

      الحياة بأكملها صغرت أمامي، وفقدت إيماني بهذا العالم، نحن لا شيء أمامكم لا شيء حقاً، غزة العنقاء وأهلها الأبطال، نعم الأبطال أعلم أنكم لا تحبون تحميلكم دور البطولة لأنكم بشر وتتعبون أيضاً لكنكم حقاً أبطال، أتمنى أن أسامح نفسي على التقصير، وأتمنى أن تسامحني غزّة وأهل غزّة، وأن تسامحني أمنا العظيمة فلسطين.
      شكراً غزّة شكراً يا أهلنا وأحبابنا في غزة أنتم منارة الطريق وأنتم فخر فلسطين..
      ولأجلكم وبفضلكم ستعيش فلسطين حرة وحرة وحرة 🇵🇸❤️.

      Reply
    • Avatar سارة
      سارة
      20 ديسمبر، 2023 في 13:41

      راح تنتهي الحرب، لكن اهم شي ما ننكسر، ما نستسلم، معنوياتنا تضل بالسماء، نبلش حياة جديدة، ونسميها حياة ما بعد الحرب، بأحلام جديدة، لازم نتكيف مع الموجود، في رب كبير ما بنسى حدا، لازم في اصعب اللحظات نذكره، نستعين فيه، باقي الامور بترجع بس ….يا حسرة وجع القلب موجود.

      Reply
  • Avatar ريان
    ريان
    19 ديسمبر، 2023 في 23:00

    اهلا ربا، انا من السودان.
    أشعر بكل ما تحدثتي عنه-ربما لانني عايشت مواقف شبيهة و أسوء في بعض الأحيان_أتذكر كم المرات التي اضطررت أن أنتظر المساء ليعتم المكان وأتمكن من قضاء حاجتي في منطقة خالية وكيف أننا اضطررنا لحفر آبار مدفونة منذ سنين عدة بسبب إنقطاع المياه منذ أول يوم في الحرب وحتى الآن لنتمكن من الحصول على الماء المالح، أذكر سؤال ابنة جارتنا فاطمة عندما قدمت لها الماء “الموية حلوة ولا مالحة” رددت لها “حلوة زيك يا فطومة” بالرغم من ملوحتها شربتها بكل ابتسامة_ واتمنى ان تنتهي الحرب لديكم ولدينا وننعم بالسلام مع ما تبقى من أحبتنا.
    اهدي اليك هذه الابيات واتمنى ان تجدي فيها ولو قليلا من المواساة:
    “يا عقلي لا تتعتر يا قلبي لا تتودر يا روحي اوعى تتوهي خطو المشيئة مسطّر”

    Reply
  • Avatar آدم
    آدم
    20 ديسمبر، 2023 في 04:48

    ستنتهي الحرب و سترفعين رأسك عالياً. هل تعلمين أنكم أهل غزة عامة و المثقفين امثالك خاصة أبطال أقوى زلزال شعرت به كل قارات العالم دولة دولة، هل تعلمين أن الله رفعكم درجات عن باقي سكان العالم هل تعلمين ان ثورات حدثت في العالم و أطحتم بدول فقد تمردت شعوب أمريكا على أمريكا نفسها و أوروبا كذلك.
    هل تعلمين أنكم رفعتم رؤوس العرب عالياًأمام شعوب العالم و أصبحت الأمم تتأسى بكم مرة أخرى من بعد مئات السنين من الانكسار و السكون.
    أنتم احفاد ابو بكر و عمر و ابن الوليد من ضمن أعظم رجالات التاريخ البشري ، فأنتم ميزكم الله و رفعكم عن غيركم درجات اعظم تكريم هو تكريم الله لكم.
    تألمنا لألمكم كرهنا العيش الرغيد و ضاقت الدنيا بنا شاشات التلفزيون أرقت مضاجعنا.

    محبكم خالد من جدة السعودية

    Reply
    • Avatar رجاء
      رجاء
      20 ديسمبر، 2023 في 18:47

      أحبكم ، وودي ودي أشيل عنكم كل هالشي ، ولا بعيوني احد بوزنكم ، عمق اتصالكم بالله مزلزل لاي حد يفكر يتعرض لكم ، باذن الله رح تنتصروا والحق الكم

      Reply
  • Avatar غير معروف
    غير معروف
    2 فبراير، 2024 في 23:28

    راح ينتهي كل شي راح تنتهي الحرب انتم اهل غزة اهل عز انتم اكرم منا جميعا انت اقرب منا لله يبتلى المؤمن على قدر ايمانه
    اكتب لكِ من العراق

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *