كنا قد جهزنا حقيبتين فقط، واحدة للأوراق الثبوتية والشهادات، والثانية لبعض الغيارات، في حال اضطررنا لإخلاء سريع. لم يكن الأمر سهلا، فأنت تختصر الحياة في حقيبة، ولكنك مجبر على الاستعداد لمثل هذه الأمور. 

ليلة الجمعة كان النازحون من مناطق غزة المختلفة يملأون الشوارع، وكنا نحاول النوم بتأمل، بعد نهار مليء بالأشجان حيث قصف الطائرات بيتا لعائلة الآغا في خانيونس، وهم جيران لأهلي، بكينا كثيرا، وترحمنا على مهند وأخوته وأمه وأبيه. وليلة الجمعة أيضا جهزنا كميات كبيرة من الساندويشات للنازحين في عمارتنا، فكان كما يقولون “العشاء الأخير”.

 بدأت الإشاعات تسري في منتصف ليلة الجمعة، الجميع يتبادلون رسائل تفيد بضرورة إخلاء مدينة غزة، نحن تجاهلناها، كذبناها، ثم قررنا النوم بعد أن انتهينا من تداول كل النقاشات التي يجب أن تقال. في الصباح كان الكلام صحيحا، وكان التداول في المجموعات كبيراً، الكل بين النفي والتأكيد، حتى ظهر الخبر اليقين من ضابط على إحدى الشاشات يطالب سكان غزة بالإخلاء حتى ٢٤ ساعة قادمة. 

بدأت بالبكاء المر، لا أصدق، القرار صعب، كيف سنحسم أمرنا بالبقاء أو الخروج من البيت، ومن مدينة غزة نهائيا. أفرغنا الحقائب من الكتب المدرسية، من دفاتر الحصة والواجب، ومن كراسة الرسم والألوان، وضعنا مكانها غيارات داخلية وخارجية، منشفة وبعض المستلزمات الأخرى، أخذت أكدس فيها ما استطعت، أنظر للبيت وأبكي وأكدس ما استطعت. نحن لا نملك حقائب سفر كبيرة لنغادر بها.

أنا لم أسافر منذ ٢٠١٤، وزوجي منذ أن أنهى دراسته في ٢٠٠٨ في مصر، استعنا ببعض حقائب الفسح الخفيفة أيضا، جمعنا ما يمكن جمعه من الذكريات وألبوم الصور، مخدة مفضلة، دمى وعرائس ودفتر رسومات يارا، زي الرياضة الخاص بكامل، أخذت مصحفي، لابتوبي ورواية رأيت رام الله وكتاب أحلام “طعم فمي” الموقع. هل علينا أن نغادر الآن؟ وكيف ستكون الطريق؟ هل سنصل بسلام؟ ينادونني من الأسفل، الجميع على أهبة الاستعداد، أحاول تأخير المغادرة ما استطعت. أصوات الانفجارات لا تتوقف، الخوف تمكن منا، حوقلنا وسبحنا واستغفرنا الله على كل ما بدر منا، ودّعنا العائلة التي تفرقت في المدن، وسلكنا طريق الخوف والرعب، وطريق الدموع، ملوحين للبيت، ومتجهين نحو الجنوب.

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *