يومياتُ غزة: الحرب تُغيّرُ كلَّ شيءٍ، ولا تتغيّر                                                                     ها نحنُ قد استيقظنا، يبدو اليوم الخميس. كُلّ الأيام بدت مُتشابهة، فقد تحوّل العدُّ من رزنامة الأيام في الشهر، إلى رُزنامةٍ أُخرى، هي رُزنامة الحرب. إذًا، اليوم ليس الخميس، وليسَ خامسُ أيامِ الأُسبوع، اليوم سادسُ أيامِ الحرب.

لا يعني أنّنا استيقظنا، أنّنا نِمنا، إنها إغماضةٌ بين ساعةٍ وأُخرى، نأخذها، وتتكرَرُ في الليلةِ الواحدة بعض المرّات. أزلتُ مُنبه السادسة الذي كان يرنُّ يوميًا في الصباح، فصوتُ الصواريخ يكفي ويُقومُ بمفعوله.

الصواريخ لا تتوقّف، الانفجارات في كلّ مكان، أكتبُ على “تويتر”، لكن، أتساءل، هل تكفي هذهِ الكلمات لتصفَ ما يحدُث؟ هل تكفي هذه الكلمات حقًا، كي يُدرك الناس أن الأصوات مُتكرّرة، في الثانية الواحدة، عشرات المرّات؟

أعودُ لأكتب. الصواريخ لا تتوقّف، انفجاراتٌ عنيفة في كلّ مكان، غارة أُخرى، قصفٌ مجنون، زلزال. الآن أعلم، هذه اللُغة التي قالوا طويلًا إنها أعظمُ لغات الأرض، وأكثرها امتلاءً بالمعاني وبالكلمات، هذهِ اللُغة التي عجزنا عن فهمها وإدراك عظمتها، تعجزُ الآن عن إدراك هولِ المشهد، إنها اللُغة “العاجزة”.

الليلة الماضية كانت صعبة، كان تساقط الصواريخ يُشبه تساقط الحمِم البُركانية، صوت الصاروخ يجوب السماء، قبل أن ينفجر. هذه اللحظة حين تضعُ يدكَ على قلبك، متخوفًا من أن يسقط هذا الصاروخ عليك. لكن، هل تكفي هذه اليد، لتُهدئِ من روعه القلب؟

الاستيقاظ لم يكُن سهلًا، رُبما هو سهلٌ، مقارنةً بأمٍ تُنادي على ابنها ليستيقظ، فتُنادي عليه مراتٍ عدّة، لكنه لا يستيقظُ من ثقل نومه. لكنّهُ لم يكُن سهلًا، من وقع الانفجار. دقائقُ حتى أدركنا أن الصاروخ سقط على بُعد أمتارٍ قليلة عنّا. المكان امتلأ بسيارات الإسعاف. الزُجاج في كلِّ مكان. الناس تصرُخ، وسيارات المواطنين تنقلُ الجرحى. “توكتوك” ينقلُ شابًا بقدمٍ مبتورة. إذًا، هل يبدو الاستيقاظُ سهلًا؟

انقطع الإنترنت منذُ أيام، توقّفت كلّ وسائل الاتصال، انقطعت الكهرباء والمياه أيضًا. أتأملُ حالنا، الآن يريدون لنا واحدًا من اثنين، إمّا أن نموتَ تحت الأنقاض، مُقطعين جثثًا وأشلاء، وإمّا أن نموتَ من الجوع، وقد تعفّنت أجسادُنا، ونشفت حُلوقُنا، واسمرّت أقدامنا من كثرة الجري على الرماد، والهربِ من غاراتهم.

أتأمُلُ ابنتي، الطفلة الوديعة الجميلة ذاتُ السنة وشهريْن، بعد يوميْن فقط تُتم هذا العُمر. وأسألُ نفسي، لماذا يأتي طفلٌ إلى هذهِ الدُنيا المتأرجحة كلّ يوم، بين الحياة وبين الموت، بين وداعة المشي على شاطئِ البحر، وبين حظرِ الوقوفِ على الشُباك خوفًا من شظيةٍ قد تُصيبُ البيت؟ الحرب تُغيّرُ كلَّ شيءٍ ولا تتغيّر. أحاولُ حساب عدد المرّات التي زارتنا فيها، 2008، 2012، 2014، 2021، 2022، و2023… وغيرها من المرّاتِ الكثيرة التي يُسميها أولئك المختصّون بالتنظير علينا بآرائهم السياسية بـ “المعارك”، أو “الجولات”. هذه الحرب لا تتغيّر، أمّا نحنُ، فلا نتعوّد، في كُلِّ مرةٍ نقولُ فيها تعوّدنا، تعودُ الحرب ونعرفُ قسوتها، قسوةَ انتظار الموت، أو انتظارِ النجاة، قسوةَ الخوفِ على الأُم والأب، قسوة الخوفِ على العائلة، والخوفِ من القذيفة القادمة، في أيِ بيتٍ ستحُط.

والحرب أيضًا تُغيّر كلّ شيء. فكلُ الرغبات وقت الحرب، تفاهات، هكذا تُغيّرُ الحرب نظرتنا إلى أنفُسنا.

كُلُ شيءٍ في الحربِ مُختلف، فحتى احتمالات الموت مُتخلفة، والأمنيات مُتعددة، فللحربِ خياراتُها أيضًا. نعم نُريد النجاة، لكن إذا لم نَنجُ، فإننا نُريد أن نموت بطريقةٍ أفضل. ألا ننتظرَ طويلًا تحت الأنقاض، وألا نموتَ أشلاءً، أن نموتَ فقط ميتةً سريعة وبسيطة، ووجوهنا كاملة، كي يحفظها من نُحبَ بالشكل الجميل الذي عرَفهُ دومًا.

إنها الحرب، تقتلنا في كلّ لحظة، تقتلنا في الانتظار، وفي الخوف، وفي القلقِ الكامن على الخروج منها، من دون الأحباب.نشرت أولا في موقع ضفة ثالثة وأعيد نشرها هنا بموافقة الكاتب (هنا)

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *