صديقتي يُسرى أم لثلاثةِ أطفالٍ هُم الأجمل، لأنّ والدهم شهيد، أسماؤهم: مريم وجمال وإسماعيل، وكانت قد أرسلت لي في بداية الحرب تقول: “جمال حكالي يمّا أنا بدي أعيش، بديش أموت وأنا مش عامل إشي”، وكلّ كلمات اللغة لا تكفّي لأعبّر عن أُمنيتي في نجاة جمال وإخوته وأمه. 

يُسرى ليست بالأم العادية، فهي لا تعتني بطعام ولباس أطفالها فحسب، ولكنّها أيضًا تعتني بعقولهم وقلوبهم، تحرص على أن يحفظوا القرآن الكريم وأن يتعلموا السّباحة واللغة الإنجليزيّة، تضمّهم إلى حضنها في كلّ ليلة وتمسح على رؤوسهم حتّى تُطمئن الخوف الذي وُلدوا فيه وعاشوا فيه طوال عُمرهم الصّغير. في يوم ٧/ ديسمبر ٢٠٢٣ علمتُ أنّ يُسرى والأولاد محاصرين من قِبل قوّات الاحتلال، وأنّ الدبابات تقتربُ منهم في كلّ لحظة، وأنّهم يحتمون في زاوية واحدة ولا يستطيعون التحرّك خوفًا من القذائف والرّصاص الذي يمطر حولهم. 

في ذلك اليوم أعتقدُ أنني أدركتُ معنى التوكّل على الله بكلّ ما فيه، فهمتُ أنني حتّى لو وقفت على جبلٍ وصرخت يومًا كاملًا فلن أُنقذهم، وأنني لا أمتلكُ إلّا دعائي، وتضرّعي إلى الله بأن يحمي الله جمال حتّى يكبر “ويعمل إشي”، وحتّى ألتقي يسرى كما وعدتني يومًا على فنجان قهوة “عند بحر غزّة أو في بلاد الله الواسعة”. 

مضت جُمعتين، بكلّ يوم وساعة ودقيقة وثانية ولا أعرفُ عنها خبرًا، أيّ عالم هذا الذي يستطيع الاتّصال بروّاد الفضاء على القمر وفي ذات الوقت يمنعني من الاتّصال بصديقتي التي تبعدُ عنّي بعض المعابر واحتلال، حتّى أقول لها: اشتقتلك يا إم جمال! أكتبُ ووصيتها حاضرة: “ضلي اكتبي ونزلي وانشري وترجمي يا أمل”، أكتبُ لأنّ غزّة ليست مُجرّد قطعة من الأرض تحرقها طائرات الجُنود الغرباء، ولكنّها ملايين الأحلام والقصص والأحبّة، وملايين آخرين خارج غزّة قلوبهم مُعلّقة بطرف صوتٍ في مُكالمة أو صورة ابتسامة حزينة تحت الحرب. للهِ أحلامنا وأحبّتنا وغزّتنا، في أمانة ولُطفه ورعايته وحنانه.

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *