يا عقلي لا تتعتر، يا قلبي لا تتودر، يا روحي أوعي تْتوهي خطو المشيئة مسطّر. هذه كلمات كتبها لي ريّان من السودان. هو أيضاً يعيش الحرب. أخبرني أنّه يشعر بكل ما أُقاسيه وأنا أصدّقه رغم عدم معرفتي به. هو الوحيد الذي أصدّقه حين يقول إنّه يشعر بي وهو خارج غزّة. ولأنّي كذلك، سأسميه صديقي. وجدتُ في كلماته مواساة وونساً. عثرتُ على روحي التي تاهت في زحمة طوابير مركز الإيواء.

هكذا ينجدنا الأصدقاء البعيدون عنّا وعن هذه الحرب.

كنت قد وجدت ضالتي في الحياة قبيل اندلاع الحرب. اعتقدتُ أنّ نصيبي من الكدّ والتعب انتهى وموسم الجني بدأ. وجدتُ يومها عملاً جديداً في عيادةٍ محترمة وكنتُ على وشك بدء مشروعي الخاص بالرسم. وجدتُ نفسي بعد السفر واكتشفتُ ما أريد وما أحب وما يجدر بي فعله.

وهكذا، على اسكتشاتٍ لأفكار لوحاتٍ جديدة سهرتُ في ليل السادس من تشرين الأول/أكتوبر. كنّا أيضاً قد اجتمعنا في المنزل من أجل حفلة الحفيد الأول. تحدّثت إلى صديق عرفتُه خلال سفري ووعدته بأنّي سأنزل مصر في الأشهر المقبلة لكي نلتقي. ثم نمتُ وكُلّي أمل بالحياة وإقبال عليها.

لكنّي نسيتُ هذا كلّه مع الحرب والنزوح. دُمِّرت العيادة ولا أعلم إن بقي بيتي أو دُمّر بدوره بأحلامي وبمشروعي. ولأنّي تعبتُ من محاولات النجاة كلها، يئست. فقدتُ الرغبة في الحياة. انقطع عنّي الإنترنت. لا أتواصل مع أحد. لا أعرف أخبار أحد. أمضي يومي أسمع الغارات فحسب. تقترب مني شيئاً فشيئاً فأنتظر دَوري في الموت.

لم يعد الانترنت إلا مع وصولي رفح. تحدثتُ إلى ميّادة، صديقتي المصرية. كانت قد نشرت فيديوهات عن لقاءاتنا. تقول إنّها تنتظرني لكي نسافر إلى لبنان معاً. هكذا كنّا قد اتفقنا. لا أدري، ولكن كأنّ ميّادة بعثت الحياة فيّ. شعرتُ أنّ الأمر كان يستحق. فأنا نزحتُ لأهرب من الموت. بلى، تستحق الحياةُ وأنا أستحقّها. أريد أن أعيش، أن أقابل ميّادة، أن أسافر إلى دهب وإلى لبنان.

هكذا أنجدتني صديقتي ميادة البعيدة عنّا وعن هذه الحرب.

ثم يوماً بعد يوم تزداد المأساة مأساةً… فلا ماء ولا طعام ولا ملابس ولا فِراش… ثلاث فرشات كانت معنا: زوجة أخي ووليدهما ينامان على فرشة، وأنا وشقيقتاي نتشارك أخرى. نضعها بالعرض فيكون نصفنا العلوي فوقها فيما السفلي فوق البلاط. أما أمي وأختي الثالثة، فعلى الفرشة المتبقية فيما يرتمي أخوتي الذكور أرضاً. كأنّ سكين يغرز قلبي حين أراهم كذلك. أودّ لو أفترش قلبي ينامون عليه.

يخرج أخي لسبب أو لآخر. وحين يتأخر، نعجز عن التواصل معه. تنقطع شبكات التواصل. وإنْ تأخر كثيراً؟ نفتح أخبار القصف ونبحث عن اسمه. هكذا تمضي الأيام على قلوبنا. يتغلغل اليأس في داخلي ويتّخذ من روحي منزلاً. أنا بشرٌ، أشعرُ وأخافُ وأحزنُ وأتألمُ وأتأثّرُ وأكتوي… لقد ضاقت بنا الحياة.

وجدتُ المواساة والونس حين قرأت تعليق صديقي، السوداني ريّان، على مدوّنتي الأولى: يا عقلي لا تتعتر، يا قلبي لا تتودر، يا روحي اوعي تتوهي، خط المشيئة مسطّر. نعم، إنّي وجدتُهما. عليّ أن أبذل جهدي كي لا تتوه روحي في مآسي الحرب، ولا يتعتر العقل، ولا يتودّر القلب. فالحياة مستمرة، وعليَّ أن أستفيد بوقتي هنا حتى إذا انتهت الحرب غداً عدتُ إلى حياتي كأنّي لم أتركها. عليّ أن أستعيد مرونة جسدي ومرونة أصابعي. عليّ أن أنشّط ذهني.

هكذا أنجدني صديقي البعيد عنّا وعن هذه الحرب.

أما اليوم، فقد استيقظتُ كأنّ البارحة كان السادس من تشرين الأوّل/أكتوبر. كأنّ 75 يوماً من الحرب لم يمرّوا على روحي. استيقظتُ وبي رغبة عارمة في الحياة. ولا ألم في ركبتي المصابة إصابةً يفاقمها برد مركز الإيواء. أكاد لا أقوى على المشي أحياناً، لو لخطوة واحدة. لكنّ اليوم غير قبله.

تمرّنتُ للمرّة الأولى منذ 75 يوماً. استعنت بأنبوبة الغاز الفارغة لأجعلها وزناً للتمارين. شربتُ القهوة. رسمتُ رسمة. راجعتُ لأختي طالبة الصيدلة مواضيع في علم الأدوية (الفارماكولوجي). وراجعتُ كتاباً كان زميلي قد أرسله.

سأستمرُّ بالحياة. توقفت الحرب أم لم تتوقف. سأستمرُّ بالحياة. فإذا سقطتُ متُّ راضيةً عن كل لحظةٍ مرّت في حياتي. بلا ندم وبلا يأس. سأموتُ وأنا أحاول الحياةَ.

  • تم تسجيل النص صوتا من قبل فريق “رواة” ضمن مبادرة لتسجيل التدوينات والمقالات على موقع “حكايا غزة
تشارك:

4 تعليقات

  • Avatar Sameh Mahmoud
    Sameh Mahmoud
    23 ديسمبر، 2023 في 23:19

    أستيقظ صباحا , أصلي الفجر , ثم أبحث عن هاتفي , أنتظر رسالة أو مكالمة من أحد أصدقائي في غزة , كنت قد عرفته خلال أيام الدراسة منذ سنوات طويلة , كنا نتشارك العديد من الأشياء خلال سنوات الدراسة , كنت على تواصل معه في الأيام الأولى من الحرب , تزوج بعد عودته للقطاع ولديه طفلة جميلة لم تكمل بعد عامها الثالث , أو -كان- لديه طفلة…..
    لسوء حظه ( أو حسن حظه لا أدري صراحة) , كان من سكان منطقة بيت حانون , واضطر للنزوح للجنوب مبكرا , كنت على تواصل معه بعد أن نزح لمستشفى الشفاء , ظل هناك لفترة , آخر مرة تواصلت معه كان صوته ثقيلا , شعرت وكأنه يحمل هم الدنيا على كتفيه , شعرت أنه على وشك البكاء والانهيار .
    أخبرني أنه شخصيا بخير , لكنه في نفس الوقت ليس بخير , فقد فجع باستشهاد زوجته وابنته وهو في الطريق بين الشفاء قبل النزوح جنوبا تجاه خان يونس , لم أدري كيف أواسيه , لم أجد أي كلمات أخفف بها مصابه عنه غير الدعاء لهما بالرحمة والمغفرة , و أن يثبته الله ويربط على قلبه , شكرني , أبلغني أن أبلغ السلام لبقية زملائنا , نصحته بالصبر , وأنهما إن شاء الله قد سبقاه إلى جنات النعيم , شكرني , ودعته وتمنيت له البركة والخير ..

    كانت هذه آخر مكالمة بيننا , لم أسمع عنه أي خبر منذ شهر تقريبا …
    أهل غزة ليسوا وحدهم , ملايين العرب والمسلمين يطوقون لنجدتكم ليل نهار , الملايين يتابعون أخباركم ليل نهار , العديد منا لنا أحبة في غزة والضفة , سواء من كانو أحياء أم من رزقوا بالشهادة , عليكم بالثبات والصبر , عليكم بالإيمان بالله وحده , عليكم الترابط مع بعضكم البعض , فالعرب كثر , لكنهم أمم متفرقة .

    ” يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت”

    Reply
  • Avatar ليما
    ليما
    24 ديسمبر، 2023 في 00:36

    رائع جدًا، اتمنى أن تنجي وكل عائلتك من هذا الحرب ومن كل المآسي سالمين معافين وتبقى يداك سليمتان ويختفى ألم ركبتك والبرد كله مع بعض.
    إن شاء الله ستضحكين وتمزحين مع أصدقائك وعائلتك مرة أخرى وتقابلين العالم بوجهك البشوش وتنشري لنفسك كتابًا وسأكون أول من يقرأ لك.

    Reply
  • Avatar ريحانة
    ريحانة
    25 ديسمبر، 2023 في 13:27

    معك حق , لا يحس بك الا من يعيش حربا مثلك
    تبت كل أيدينا .. لم نعيش نحن و أنتم تموتون … فلتعيشوا أنتم و ليمت الخونة مثلنا

    Reply
  • Avatar Saffanah
    Saffanah
    25 ديسمبر، 2023 في 18:58

    ❤️دائما مفعمة بالحياة، رغم كل المآسي والآلام.. ربى الملهمة صاحبة العيون اللامعة.. نحفظك في دعائنا.. حماكم الله وفرج كربكم وكربنا.

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *