أنا فعلًا عُدت ولم أعد، ولا أرى سببًا للالتباس في هذا القول؛ لأنّ كلّ شيء نسبيّ، أنا لم أخرج من غزّة ولا أعرف غزّة من قبل، لكي يكون دخولي إليها الآن عبارة عن عودة، أنا أوّل مرة في حياتي أرى غزّة!

أنا خرجتُ من الجليل ومن حَيفا والمعنى الحقيقي للعودة هو أن أعود إلى حَيفا، دون أن يعني ذلك انتقاصًا من فَهمي لوحدة وطني التاريخي الكاملة، واعتبار غزّة جزءًا من وطني.

ولكن وطن طفولتي ووطن شخصي ووطن لغتي الأولى ووطن تكوّني الأول هو الجليل الأعلى، وما لم أتمكّن من تحقيق حقّي في العودة إلى هذا المكان الأوّل فلا أستطيع أن أصف أيّ دخول إلى أيّ بقعة في فلسطين عودة.

فبهذا المعنى قلتُ: عدتُ ولم أعد، فأنا رأيتُ غزّة، غزّة التي لم أكن أعرفها، ولكن قوّة الانتصارات في عصرنا وكثرة مشاهدتي لغزّة على التلفزيون جعل الفارق بين التصوّر المسبق وبين الواقع الذي رأيته فارقًا ضيّقًا جدًّا.

رأيتُ احتفاء النّاس بالمُقارنة بين ما كانوا عليه وما أصبحوا عليه، وأيضًا شعرتُ بقلق النّاس مما يُهيئ لهم الغد، وإصرارهم من جهة أخرى على أن يصلوا لصمودهم المتمثّل في بقاءهم في وطنهم إلى فرض حقوقهم المشروعة على الاحتلال الإسرائيلي وانتزاع حقّهم من مخالب الصّقر الإسرائيلي.

فرأيتُ هناك حوارًا بين التفاؤل النّاتج عن خبرة عريقة في مقاومة الاحتلال وبين التشاؤم النّاجم عن اعتبارات إداريّة وصعوبة الظّروف وضعف الدّعم الدّولي لهم والحصار الإسرائيلي المفروض عليهم.

إنّ غزّة فعلًا كما وصفتُها هي عبارة عن مُعتقل؛ فهي مُغلقة رسميًّا طيلة العام، أي بمعنى أنّ الدخول إليها والخروج منها لا يتمّ إلّا بإذن خاصّ من الاحتلال الإسرائيلي، وهناك أيضًا الإغلاق الرّسمي الذي يصل إلى حوالي ١٦٠ يومًا في السّنة! بحيث أنّ من يحصل على تصريح يسقط التّصريح أثناء الإغلاق الرّسمي.

إذن غزّة تعيش حتّى الآن في ظروف اعتقال فرضتها القوّات الإسرائيليّة، ولكن النّاس متفائلون بقدرتهم على أن يصمدوا ويفرضوا حقّهم في الاستقلال وفكّ هذا الحصار الإسرائيليّ خطوة خطوة أو دفعةً واحدة إذا أمكن.

أنا عندما وصفتُ وضعي في غزّة لم أصف وضعًا شخصيًّا، أنا وصفتُ وضعًا جماعيًّا موصوف من قبل، وكلّ وسائل الإعلام وكلّ الشّهود والمُراقبين أدلوا بنفس الشّهادة.

أمّا ما هو موقفي منها فأرى أنّ واجبي الوطني وواجبي الثّقافي وواجبي الإنساني ألّا أزوّد نفسي بانطباعاتٍ سلبيّة للتنصل من ضرورة التّعامل مع هذه التّجربة، لأنّه ليس في وسع أيّ ضمير أن يقول هذا سوء فلا أقربه، إنّما العكس، إنّ صعوبة الوضع في غزّة وفي الأرض المُحتلّة يستدعي منّا أن نبذل كلّ جهودنا الذّهنية والنفسيّة والثقافيّة وحتّى العمليّة إن أمكن، من أجل الانخراط في عمليّة بناء الوطن من أدوات هشّة وفي ظروف صعبة، مهما كانت هشاشة الأدوات الموجودة فعلينا أن ننخرط في بنائها من أجل تقويتها، وعلى كلّ فلسطينيّ أن يبحث عن دوره في إمكانية تقديم شيء ما من أجل بناء الوطن الفلسطيني في أشدّ الظّروف صعوبةً، دون أن يعني ذلك -كما أكرر دائمًا- المُوافقة على النّص الذي نتجَ عنه هذا الواقع.

والله أنا وصفتُ الشّعب هناك أنّ شعب غزّة ‘شعب البأس والبؤس’ الذي يتعرّضون له من جيش الاحتلال، فإنّ عندهم بأس إرادة تؤهلهم بأن يدحروا الاحتلال.
وأهلُ غزّة من أطيب النّاس ومن أصلب النّاس ومن أعذب النّاس أيضًا، إنّ فيهم النّار والماء، إنّ فيهم الصحراء والبحر، فيهم الجبل وفيهم النّهر، وفيهم كلّ الصفات التي تؤهلهم لأنْ يعدون بأنّ في وُسعهم أن ينتصروا!”

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *