تقول هناء: يارب ٱموت قبل ما ينكتب النزوح علينا، مش قادرة أتصور الفكرة، البيت هو روحي.

وروحي ياهناء، حين كنت في اللحظات الأخيرة في بيتنا في غزة، كنت أجمع الأشياء وأنا أبتلع دموعي، أشربها، وأشهق وأنا لا أصدق ما يحدث، لكننا خرجنا، أُخرجنا يا هناء، كانوا يعتبروننا جبناء، البعض أفتى بعدم النزوح إلى الجنوب حيث إن الأمر سيان، في الحقيقة الظرف صعب في كل المناطق، لكن في غزة والشمال الإبادة فوق الوصف، الإبادة في الجنوب يمكن أن تمهلك فرصا أخرى للعيش، تجد ماء مالحا، او حلوا المهم ٱن تجد الماء. في غزة والشمال، أيام البقاء معدودة جدا، سيميتك الخوف، سيميتك الجوع، سيميتك القصف، المهم أنك ستموت قريبا، وفي الجنوب ستموت لكنك على الأقل ستموت موتة فيها صلاة جنازة، وفيها ضحكة أخيرة، وفيها رفاهية البحث عن مقومات الحياة، بصراحة المقارنة صعبة جدا، لكنني متأكدة أن هناك فرق.

استشهد زميلنا حامد ياهناء برصاص قناص في الشيخ رضوان، حامد الشاب المهذب الخلوق، بقى في غزة لأجل أمه المريضة، الكثير من الأصدقاء والمعارف لازالوا هناك حيدرة، النخالة، وعم زوجي وعمته، زملاؤنا وليد وحيدر ورائد، وكثيرون، إنهم تارة محاصرون من الجيش، وتارة يطاردهم الجيش بالقذائف، وتارة يقتل نصفهم ويتسلى بالبقية قنصا، ويترك ما تبقى شاهدا على الترويع، هذا إن لم يلحق بهم كمدا وقهرا، لقد أرسل لي حيدرة آخر قصيدة منذ أسبوعين، وبعدها انقطع الاتصال معه تماما.

تخيلي أن يكون الأمران في قمة الصعوبة، ففي النزوح بين المدن سوف تسير وحدك، تصادفك خيمة أو غرفة صديقة، أو عائلة تستضيفك في وسطها، أو تترك لك شقتها، تخيلي أن البعض ترك شقته وانضم لبيت العائلة، ليتيح للأصدقاء النازحين المكوث، يا إلهي ما أروع الناس!

والخيار الذي يبحث عنه الجميع غرفة أو شقة بالأجار، وهذه أفضل الخيارات على الاطلاق إن وجدت، ثم بعد أن تستقر وتبدأ بالعيش، يُطلب منك النزوح مرة أخرى إلى مكان جديد، وتبدأ رحلة البحث المستحيلة.

والأمر الصعب الآخر هو أن داخل غزة هناك نزوح، لقد تمرن الناس على النزوح الداخلي أيضا، من الغرب إلى الشرق، ومن الشرق إلى الوسط، ثم إلى الجنوب قليلا، ثم عودة إلى الوسط، ثم إلى الغرب، ألم أخبرك أنهم يطاردون الناس (يحلقون لهم) ثم يتسلوا بإعدامهم في الشوارع والبيوت، لا إسعاف ولا اتصالات ولا شحن، ولا استغاثات، لا ماء ولا طعام كل المحاولات تبوء بفشل معلق في رقاب أقذر المشرعين على وجه الأرض.

النازح ليس شخصا خفيفا على فكرة، ٱنت ثقيل لمجرد الفكرة، فكرة أنك تمثل حملا إضافيا على مدن تعاني أساسا من قلة الموارد وهشاشة الظروف، لكنك مضطر للخروج، والآخر مضطر لاستقبالك ٱيضا، تأتي بلا شيء فتسحب من الأسواق كل شيء، وإن كنت نازحا محظوظا فإنك تنزح بأغطية وفراش وملابس وبكيس الطحين وبجرة الغاز، وإن كنت قد خرجت من تحت القصف لتوك، فإن الأمر سيتعقد كثيرا، وتبدأ كل شيء من جديد.

هناك نوعان من النازحين، نازح ذكي يحاول الانسجام مع أهل المنزل، معاونتهم، مشاركتهم في كل شيء، والنازح الثقيل يعتقد نفسه ضيفا، ويتوقع من الجميع خدمته لٱنه ببساطة -نازح- فيم ينسى أن أهل المنزل يعانون أيضا من الحرب وقلة الموارد، أما إن كنت في خيمة أو في مركز إيواء أو شقة خاصة مستأجرة، فسيكون الأمر مريحا أكثر، وعليك ٱن تتدبر أمرك بنفسك في كل الظروف.

أنا نازحة منذ ما يزيد عن شهرين ونصف، لكنني شعرت بألم النزوح الحقيقي، حين أخلينا بيت أهلي بعد انتهاء الهدنة، وهناك أيضا تركت الكثير من الأمتعة، نزحت غير مصدقة، نزحت وأنا أقنع نفسي أننا سنعود غدا لنٱخذ الأغراض المتبقية، أتعرفين يا هناء، إنني أسافر بعقلي بشكل شبه يومي لبيتنا في غزة ولبيت أهلي في خانيونس، أفتح الخزانة وألبس منها ما شئت، وأجلس ٱمام الشاشة وأنا أشرب السحلب، يتدفئ قلبي بحراماتي المفضلة، وبشعيرية أمي وبغرفتها، ٱتدفء بوجهها، وأفتح ثلاجتها التي تحولت في الحرب إلى خزانة، أخذ منها كيس برغل، أطبخ للصغار ولقلبي البردان دائما.

النزوح إجباري جدا يا هناء، لا ٱحد يخرج من بيته راضيا سعيدا للأسف.

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *