هذا العمّ الذي في الصّورة هو: نضال عبد النّبي، صاحب الرّوح المرحة المحبوبة بين الجميع، وأنا أطلقتُ عليه لقب: ‘فاكهة منطقتنا’، هو الذي لا نستغني عنه وعن مزاحه وضحكاته، وعن ابتسامته التي لا تُفارق وجهه الطّيب، يحلو الصّباح الذي يبدأ به، فقد كان يحبنّا ويحبّ والدي كثيرًا، ويُحبّني أنا على وجه الخصوص، إذ كان دائمًا ما يسأل عنّي وعن أخباري. كان لدى العمّ نضال سيّارة يقلنا بها أحيانًا، ولا أستطيع وصف السعادة التي تغمرنا حين نركب معه؛ فالوقتُ الذي نقضيه معه في الطّريق أجمل من وقتنا في المكان الذي نذهب إليه

وعدني عندما أتزوّج وأصير عروسًا أنّه سيزّفني بنفسه في سيّارته، وكان يقول لي ضاحكًا: “له يا عمّي، أنتِ وحدة من بناتي يشهد الله، فداكِ كل السّيارات”

‏قبل يومٍ من الحدث الأليم رأيتهُ من الشّباك، أشّرت له بحماسٍ وناديتُ: “عمّو نضال عمّو نضال!”، قال: “وبعدين فيكم يا عمّي، عشان اسم أمك فلسطين كلّ هاد صار إلنا، كلّه عشانك يا فلسطين”، وضحك ضحكته المُعتادة وأكمل طريقه.

‏بعدها بيومٍ فقط يأتي خبرُ استشهاد العمّ نضال! لقد قُتل على يد الاحتلال اللعين، وهو أعزل مدنيّ لم يحمل السّلاح، رجلٌ يحبّ أطفاله ويدللهم، يحاول التّماشي مع الحياة، ويضحك لها رغم صعوبتها.

وحين أخبرونا باستشهاده لم أصدّق ما أسمع، وأكتب الآن وأنا أبتسم وأتخيّله كما كان. فكيف لهذه الروح الجميلة أن تُقتل! كيف لهذه الضّحكة أن تموت! فلتضحك لكَ الجنان يا عمنّا الحبيب.

‏بعد استشهاد العمّ نضال بشهرٍ تقريبًا، قابلتُ عائلته وأطفاله، وبعد رؤيتهم لا أدري كيف انهمرت كلّ الدموع التي تحجّرت في عينيّ منذ بداية هذه الحرب! لا توجدُ كلمات لتصف حالهم من بعد غيابه. في تلك اللحظات لعنتُ العالمَ والحرب والسياسة، ولعنت كلّ شيء!

‏للعمّ نضال طفلة اسمها ليان، التقيتُها مرّة واحدة في الشّمال قبل النّزوح، وكنتُ قد أعطيتها [حبّة حلو] وقبّلتُها، وكنتُ آخر من تراه قبل استشهاد أبيها، ولقد سألت عنّي، وأرادت رؤيتي مجددًا، وعندما التقتني احتضنتني طويلًا وبدأت تقول: “بابا كان يجيبلي الألعاب، مين راح يجيب لي من بعده!”، وأكملت تقول لي: “بتعرفي يا نور، شفت بابا وهو شهيد، كان على جسمه دمّ كثير، صرت أمسح الدم عن وجهه وأقله: لمين رحت بدونا، شو نعمل من بعدك! بابا أنت سامعني! بابا أنت مش هترجع تاني، ولا راح تجيبلي ألعاب؟ وصرّخت كثير كثير بس ما صحي علي بالمرة.. وبعدها أخذوا بابا منّا وما رجع، كانت آخر مرة أشوفه، معقول أرجع أشوفه تاني، يمكن هو متخبّي بمكان بعيد عشان يمزح معنا ويرجع!”

ألعاب معروضة في محل صغير في مدينة رفح خلال الحرب الصهيونية على غزة

ألعاب معروضة في محل صغير في مدينة رفح خلال الحرب الصهيونية على غزة.

هذا ما سمعتُه من ليان، الطّفلة الجميلة البريئة، وأكبر أحلامها هو أن يعود أبوها من غيابه، ويشتري لها الألعاب، ولكنّ الاحتلال اللعين حرمها من أبيها وحبيبها وسندها، الاحتلال اللعين أخذ منها كلّ ما هو جميل، سرق منها ابتسامتها وفرحها و.. وكلّ شيء!

‏لم أنسَ ما قالتُه ليان عن الألعاب، أردتُ أن أدخل الفرح إلى قلبها الصّغير، ولكن كيف أستطيعُ وكلّ ما في الدّنيا من فرح لا يُنسيها ألم فقدان أبيها!

ورغم أنّ الألعاب ليست متوفّرة في غزّة، فكلّ ما يشغل النّاس اليوم هي أساسيات الحياة من الطّعام والشراب، ولكنني حاولتُ، وخرجتُ في رحلةِ بحثٍ طويلة على أمل بسيطٍ أن أجد أيّ لعبة مهما كانت، فقط لتُدخل السّعادة على قلب ليان!

‏ولم أجد سوى بعض الألعاب عند عمّ لطيف، وعندما حصلتُ عليها شعرتُ أنني ملكتُ الدّنيا، فأن تجد لعبة في أيّام الحرب لكي تُسعد طفلًا؛ هذه معجزة حقًّا!

‏المهمّ والأهمّ، أنّ لعبة الباربي هذه قد استطاعت رسم الابتسامة على وجه ليان الجميل ولو لبضع لحظات، وهذا أعظمُ ما أنجزته في يومي.

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *