أنا الآن أركبُ حمارًا، هذه وسيلة المواصلات الوحيدة التي استطعتُ الحصول عليها بعد أكثر من عشرين دقيقة من الانتظار، في شارعٍ مكتظّ بالناس الذين ينتظرون مثلي على جوانب الطريق، ينتظرون أحدًا يقلهم إلى وجهتهم. 

في الشارع أيضًا منازل ومسجدٌ مُدمّر، صراخ أحد العاملين في باصات وشاحنات النقل، سلطان سلطان، طيّارة طيّارة. وهُنا يُشير إلى حي تل السلطان، أحد أشهر أحياء مدينة رفح، ويقع في غربها، وإلى ما يُعرف بـ”مفترق الطيّارة”، والذي تواجد في وسطه طائرة صغيرة، هكذا تُسمى الأشياء بأسماءٍ ورموز، درج الناس على استعمالها في الحياة اليوميّة. الآن تحوّل هذا المُسمى “طيارة، سلطان”، إلى واحدة من أشهر الكلمات في مدينة رفح، التي بات يقطُن فيها نحو مليون وربع المليون شخص، نازحينَ مثلي من مناطق كثيرة، مثل مدينة غزة، شمال غزة، مدينة خانيونس، مخيمات النصيرات والبريج والمغازي.

وقفتُ وقتًا طويلًا، أسأل سائقي السيارات القليلة المارّة، من يقلني فيهم، أو سائقي العربات الكبيرة والشاحنات، التي تحوّلت إلى وسيلة نقل للناس، في ظلّ انقطاع الوقود، فقد انقطع منذ اليوم الأوّل للحرب، بقرارٍ من وزير الطاقة الإسرائيلي الذي وقّع الأمر فور إعلان الحرب. ذلك اليوم أدركنا أنّ هناك أزمة على الأبواب، لم يعُد بالإمكان تعبئة أيّ سيارة بالوقود بسهولة. آلاف السيارات توقّفت، أصبحت مركونةً في جوانب الطُرقات، بلا سائق، كأنها جمادات، تُشبه أحجار الشارع. وكما انتشر الغلاء في كلّ مناحي الحياة، وصلَ أيضًا إلى الوقود، فبدلًا من بيع لتر البنزين بما يُقارب 9 شواكل، أصبح يُبع بنحو 80 إلى 90 شيكل، وهكذا يُقاس على أغلب أنواع الوقود الأخرى، من سولار وكاز وغيرها.

مللتُ الانتظار، ووجوه الناس العابسة الكثيرة الموجودة في كلّ مكان، ودُخان السيارات القاتلة التي تحوّلت للعمل من الوقود إلى زيت القلي.. شاهدتُ حمارًا صغيرًا مُتعبًا، وكانت عربة صاحبه فارغة، فسألتُ الرجل، المتجهّم أيضًا “تاخدني ع الطيّارة؟”، سأل “قديش حتدفع؟”، ولم يترك لي مجالًا لأجيبه، فقال بنفسه “3 شيكل”. نظرتُ إلى الطريق، التي لا تأخذ في الأيام العادية سوى خمس دقائق، وإلى الحمار المُتعب، الذي يكاد يقع من تعبه، وسألت الرجل “تلاتة؟ ع شو.. بركب في الباص بتلاتة!”.

وافقت مُضطرًا وعلى مضض، فأنا شخصٌ لا يُحب الانتظار الطويل، فكيف بانتظارٍ في مكانٍ كهذا، عدا أن لي عملًا طارئًا يحتاجُ ألا أتأخر أكثرَ، فشكرًا للحمار الذي سيوصلني لأُنهي هذهِ المُهمة.

ركبتُ وأنا أسخر من هذه اللحظة، وأُقارن ما أنا فيه بوضعٍ آخر، لا أريد سيارة، لا أريد أن أركب كما كنتُ في الأيام العادية، أريد باصًا، أو شاحنة نقل الأبقار والعجول التي نقلتني في المرّة الماضية، وأنا متكدسٌ مع أكثر من ثلاثين شخصًا آخرين. هذا احتمالٌ أفضل من الحمار، ليس لأنني أخجل ولا لأنني مرفهٌ بعض الشيء، بل لأن هذا الحمار التعيس، متعبٌ جدًا، ويمشي أبطأ مما كنتُ سأمشيه على قدميّ.

ركبَ آخرين معي، سألوا الرجل العجوز عن طريقه، فكانت وجهتهم واحدة، قبل أن يركبوا قال لهم بوضوح “بتلاتة شيكل لهناك”. نزلَ البعض، وبقي آخرين، جادلوا في سعر المواصلة المميّزة هذه، جادلهم الرجل وقال “هي السعر”. أمّا أنا فقلتُ لهم “معلش، سعر بنزين الحمار صار غالي كمان”. نظرتُ إلى السائق، وقلتُ له “البنزين غالي؟ ضحك على مضض، وقال اه”.

فتحَ ذلك مجالًا للرجل، كي يحكي عن مُعاناته، وقال إن سعر كيس الشعير الذي يأكله الحمار أصبح مرتفعًا أيضًا، فقد تجاوز الثلاثمائة وخمسين شيكلًا، وهي ما تُعادل مائة دولار. في هذه الحالة لم أقل له، إلا “الله يعينك”، كي يسكُت ويُكمل طريقه.

سخرتُ مرةً أخرى من الحمار، من عبثية الموقف الذي أعيشه، فقد كان الحمار بطيئًا جدًا، بطيئًا بشكلٍ لا يُطاق، قُلتُ لنفسي، حمار، وفي الزحمة، وبطيء ومُتعب! ولم أعلم أنني من بطئه سأصل بعد خمسةٍ وأربعين دقيقة، وهي مواصلة طويلة ووقتٌ طويل، كنتُ سأحتاجه في التنقل بين مدينتيْ غزّة ورفح، لا داخل رفح وحدها، وهي مدينة صغيرة، وكلّ مواصلتي كانت في شارعٍ واحدٍ، طويل جدًا.

قُلت للرجل “مال حمارك، شكله مش معبّيه بنزين؟”، ساخرًا منه ومن الحمار، أعدتُ كلامي وقُلت “كتير بطيء، شكلنا حنوصل بُكرا”. خلقَ هذا حديثًا بين الرُكاب الذين زاد عددُهم عن سبعة، ليشجّعوا السائق على أن يستعجل حمارهُ قليلًا، فعلى هذا المستوى، قد نصل مع غروب الشمس، ونحنُ في الظهيرة.

رُكوب الحمار، ليس شيئًا سيئًا للغاية، فهناك امتيازاتٌ أخرى لهذه الطريقة البائسة. لستَ في عربة مُغلقة، لا تبقى مخنوقًا بنفس الرُكاب الآخرين وبأحاديثهم، ودخان سجائرهم، فقد فالهواء الطلق فوق عربة الحمار، أجمل وأبهج. رؤية الناس والنظر في تفاصيل يومهم، أفضل أيضًا. لكن أيَ هواءٍ طلق، وأي تفاصيل؟ هل الهواء المنبعث من بقايا الصواريخ والقصف؟ أم الهواء المنبعث من زيت السيارات المحترق والقاتل؟ أم الهواء المنبعث من احتراق الحطب والنيران التي بات الناس يخبزون ويطبخون عليها؟

أيّ تفاصيل حياتيّة هي المميّزة في أن نُشاهدها من عربة الحمار؟ الأعداد المكدّسة في شاحنات النقل، بعضهم يُدلي قدميه من طرف الشاحنة، بعضٌ آخر على وشك الوقع، امرأة تطلبُ من سائق الحمار أن يقلها، فيرُد بأنه لا مكان، فالدابة لا تتحمّل أكثر من ذلك، وكأنّها تحمّلت الأقل!

أم مشاهد القصف والدمار المترامية على جوانب الطريق، الرُكام الكبير في كلّ مكان، ضيق الشوارع وعدم القدرة على المشي فيها، إمّا من كثرة الناس، أو من بقايا المنازل والصواريخ، أو من بسطات الباعة، الذين يشترون المساعدات من مستلميها، ويتجهون نحو بيعها في الشوارع لمن لا يستلم المُساعدات.

الطريق طويلة، أطولّ من خمسٍ وأربعين دقيقة أخذتها، ففيها أيضًا مشاهد مترامية في كلّ مكان، لنازحين، إمّا يبحثون عن خيمة، وإما يقومون بتأسيس خيمة، فهُنا عائلة وضعت خيمتها الجاهزة داخل متنزه “الحي السعودي”، وهُناك عائلة أخرى تضعُ الخشب، وتبدأ تركيب خيمةٍ خاصّة. في مكانٍ آخر، خيمة مغلفة بالنايلون، إلى جانبها رجلٌ عجوز، يمسكُ سيجارته، وأمامه النار التي يغلي عليها القهوة، يجلسُ على كرسي، كأنّه في حديقته أو أرضه، هكذا أصبحت جنته الخاصة، أن يجد خيمة ويشرب القهوة، وفي الداخل يتكدّسُ أفراد عائلته فوق بعضهم، داخل هذه الأمتار القليلة.

حميرٌ كثر، في الطريق، أحصنة، حميرٌ صغار وكبار، بطيئة أو سريعة، حمارٌ آخر مرّ أمامنا وكان أسرع من العربة التي تقلنا، فقال أحد الرُكّاب للسائق، لا تجعل ذلك الحمار يسبقك، لكن حمارهُ كان أضعف وأبطأ… الحياة نفسها، تمضي، والناس تتأقلم، تُمارس كل عاداتها، تمضي بيومها، لكن بشكلٍ آخر، بالتأقلم مع المأساة، كي يعيشوا، لا لأنها تستحق التأقلم.

تشارك:

1 تعليق

  • Avatar Areej
    Areej
    3 يناير، 2024 في 21:07

    سبحان الله نفس المأساه والبطء في السودان

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *