كلامٌ أكتبه لأوّل مرّة، عن أجدادي، عن ما صنع ذاكرة ‘أمل’ بصورتها الحاليّة، عن ذاكرة الملايين من أهل فلسطين حين تُذكر مفردة “نكبة”. لماذا يجب ألّا يتكرر ما حدث في ال٤٨؟ ولماذا أهل غزّة يصرّون على البقاء فيها رغم الموت والجوع والعطش؟

سيدي أبو عرسان إرشيد منسي، وُلد في قرية العبيديّة- قضاء طبريّا، عاش في أرضها يزرعها ويحصدها، وتزوّج على عُمر صغير من ستّي أم عرسان التي أنجبت لهُ صبيانًا وبنات. وقد وضعت أخبار المجازر حدًّا لهذه الحياة الريفيّة الهادئة، حيث تناقلت الأفواه أنّ جُندًا غرباء قد قتلوا واغتصبوا وبقروا بطون النّساء، فآثروا الابتعاد قليلًا علّهم يحمون نساءهم وأطفالهم من الأذى. ولم يكن يدري سيدي أنّه حين يُسلّمون سلاحهم الشخصيّ المتواضع للجيشِ العراقي، بعدما يعِدهم أنّه سيُنهي اليهود ويُعيدهم، أنّ هذه الأرض ستكون حُلمًا بعيد المنال لأحفاد أحفاده.

خرجوا في نيسان، قطعوا النّهر إلى أرضٍ آمنة، وانتظروا. قامت [دولة إسرائيل] في مُنتصف أيّار، ولم يعُد هنالك بيت ولا أرض ولا شجر، إلّا الشّجر الذي يبيتون تحته جوعًا وعطشًا وتعبًا. فاستأجر والده سُليمان منزلًا كبيرًا ليضمّ العشيرة، وقد كان شيخها والمسؤول عنها، واضطر بعدها شباب العائلة إلى العمل في قناة الغور وفي أيّ مجال ليُطعموا الأفواه الجائعة التي تنتظرهم.

انتقل بعدها سيدي إلى إربد، وبعد سنوات عمّر منزله غرفة غرفة بيده، وسّعه وكبّره حتى صار أشبه بالمضافة، سكب من عُمره ومن عُمر ستّي حتى يُدرّسوا أولادهم؛ لأنّ العِلم هو الفرصة الوحيدة للنجاةِ من شبح ما حصل في ال٤٨، وخرّجوا من بيتهم بعد سنواتٍ قليلة أطبّاء ومهندسين وصيادلة ومؤلّفي كُتب، صاروا لهم كلّ الأمل في حياةٍ جديدة.

توفّي سيدي في نهاية الثّمانينات وهو يحملُ فِلَسطين في قلبهِ وفي سُمرته، وفي عقالهِ وكوفيّته، وفي وجاهته وحبّ النّاس له، وكان إذا قال كلمة في جلسةٍ فقد حسم، وإذا احتضن طفلًا أشبعه حُبًّا ودلالًا، وإذا وصّى ستّي قال لها: “الخيل الأصيلة لوحدها [دون فارسها] بتكمّل المشوار يا زينب”.

هذه القصص التي تربّيتُ عليها، وهذا بعضُ ما أحملُ في ذاكرتي عن النّكبة، ورائحة البلاد، وإنّ ما يقومُ به أهل غزّة اليوم هو حمايةٌ لكلّ منّا من تكرار هذه التّجربة، من ضياع حياتنا وبلادنا وتأسيس كلّ شيء من الصّفر، بعدما كنّا أسياد أرضنا.

أنا وسيدي وعيلتي وشعبي وأمتي مدينون إلى غزّة بالكثير

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *