‏كنتُ أفكر بالتفاصيل والمعارك اليومية التي لا يعرفُ عنها أحد، وربما لم تأخذ انتباه من لم يَعشها، والتي لا نعرفُ عنها الكثير أصلا..
‏نسمعُ عن قصف مجمعاتٍ سكنية ومراكز ومدارس الإيواء.. نسمع عن التهجير قسرًا إلى أماكن غير آمنة بحُجةِ أنها آمنة.
‏ولكن لماذا لا يكتبُ أحد عن تفاصيل القصف والنزوح؟ هل يفكر بها أحد؟
‏رُبما من هولِ ما يحدث؛ تُنسى تفاصيل الحياة الصعبة..

‏رفح مثلاً تلك المدينة التي كانَ يبلغ عدد سكانها 300 ألف فلسطيني، ونزحَ إليها خلال الأسابيع الأخيرة أكثر من مليون شخص، ولا يزال النزوح إليها مستمرًا حتى الآن.. في هذا الزخم السكاني أفكر كيف اضطر الغزاوي أن يفقد حدوده الخاصة ومشاركة كل تَفاصيلِ حياته مع من حوله.. أفكر بصفوف الطعام، ومَشقتِها على النفس والجسد.. أفكرُ بفزعِ الأم عندما تسمع خبراً عن منخفضٍ جوّي، ولا يوجد ما تحمي به طفلها من قسوةِ برد الشتاء. وأفكر بمن أضاع تَحويشَة عُمره في الأسعار الخيالية أثناء هذا العدوان في ظروف القهر والقِلة.

‏أفكر بالنازحين في مدارس الإيواء، في الغرفة الواحدة عائلاتٌ عدة، الحمام مشتركٌ للجميع إن توفر لهم.
‏كَتب أحدهم:
‏كان من الصعب أن تعرف اليوم الذي أنت فيه فلا معنى للوقت، حين تضطر في بعض الأحيان لكي تقدر وقت الصلاة تقديراً، ثم تبحث عن شيء للطهور فلا تجد لأيام طويلة سوى التراب وشيء من الورق، فإذا وجدت الماء كنت من المحظوظين جداً.

‏أفكر بالتفاصيل التي تعيشها نساؤنا، والتي لا يتكلمُ عنها أحد، رغم أنهم اصدعُونا بحقوقِ النساء لسنوات. وأفكر بالنساء التي لم تخلع حجابها منذ خمسةٍ وتسعين يومًا، تنام به خوفًا من استهداف المكان وهي نائمة.

‏أفكر بالطفل الذي يشتهي طعامًا معيناً فلا يجد..
‏رأيت منشورًا لفتاة، وهي تقول أن اليوم هو يوم العيد لأخيها؛ لأنه أكل “بطاطا مقلية” التي كان يشتهيها لأيام.. ألا يجب أن يفكر أحد بهذا؟

‏أفكر بقهرِ الرجال الذين لا يستطيعون تأمين الحليب لأطفالهم الرُضع.. وأفكر في بكاءِ الأخ الأكبر من العجز؛ لأنه لا يستطيع أن يُطمئِنَ أخاه الصغير الذي يرتعدُ خوفًا من أصوات القصف. أفكر بالقهر .

‏وأفكر بالليالي التي لا يستطيع أن ينام بها من يعيش نزوحَ الخيام من صوت الزنانات. وبمن لا يستطيع النوم من شدةِ البرد في المكان. هل يفهم أحدهم تفاصيل هذه الحياة التي تودي إلى الجنون؟

‏أفكر في مريض الرَّبو الذي فقدَ جهاز الأكسجين الخاص به وسط القصف.. وبمن يعاني جفافًا في عينه مثلاً، ولا يجد مسكناً بسيطاً لصداع رأسه الذي كاد ينفجر.

‏قرأت منشورًا لفتاة من غزة تكتب:
‏”فيه أزمة شباشب حادة بغزة يا ريت الجمعيات تاخد بالها، أنا لما نزحت بالبوت، و مش لاقيه شبشب، ولفيت السوق على شبشب ما لقيت، وكل البياعين حكولي كل الناس بتدور زيك على شبشب”..
‏أفكر بأزماتهم الصغيرة تلك، وأفكرُ بالنازحين الذين ينامون على الأرصفة لأيام.

‏أفكرُ بالأزماتِ الشخصية لكل من فقد أحباءه، أفكر بكل واحدٍ منهم. أفكر بتفاصيل الليلة الأولى لمن فَقد عزيزاً.. ودائمًا ما يخطر في ذهني كنفاني عندما قال “إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت.. إنها قضية الباقين” أفكر بحزنهم في وسط الليالي الكئيبة مع خوفهم من صوت القصف والمدفعيات.. أي قلب يمكن أن يتحمل هذا الثقل؟

‏أن كنت تقرأ كلماتي اليوم، أو بعد سنواتٍ من هذا العدوان، فكر في تفاصيلِ يومك وأقل احتياجاتك.. وفكر كيف يكابدها أهل غزة كل يوم.
‏كيف يصنعون مُقوماتِ الحياة غير المتوافرة، ويعيشون كل تفاصيل وآلام العدوان.. فيضافُ إلى جهادهم الكبير هذا جهاد..
‏يَصنعون الشاي بلا موقد، ويشربون من ماءِ البحر.. يَعتَصرُهم الألم ويحيط بهم الموت من كل مكان.. لكنهم يصمدون.. وأنت تقرأ عن حرب الإبادة التي سُطّرت بحقهم.. لا تنسى بطولاتهم تِلك.. فهذه التفاصيل المَنسـية لا تُسجل في نشرات الأخبار.

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *