هذا دمي، يبدأُ من حيثُ يسكتُ النشيد، ومن حيث يتسلى الموتُ على طريقتِهِ بطفلين زائدين عن قدرةِ الساسةِ على احتمالِ الحقيقة.

هذا دمي، لمَن أخلى مساحةً ليورِدَ النارَ في منشأةِ القلبِ، يفركُ يديهِ ليحتمي بالنومِ من رؤيةِ الحريقِ على باب المعنى، يسخرُ المعنى من المبنى، وتقولُ لغةٌ لقائلِها: ليسَ من أجلِ هذا خُلِقتُ، ويضحكُ عابرٌ في ممرٍّ ضيّقٍ ويرفعُ صوتَهُ بدعاءٍ قديمٍ فيهِ خطأٌ شائعٌ، وتنهارُ حولَهُ بنايتانِ من خجلٍ على أرضٍ لم تشربْ خشونةَ الأرقام بعدُ، فيصابُ الغيمُ بالحيرةِ، فلم يأتِ محمّلاً برغبةِ الغسيلِ، وكانت كلُّ قطرةٍ في السحابةِ تحلمُ أن تكونَ لوناً في ورقةِ شجر، مشهدٌ لا يشبِهُ شيئاً أن ترى غيمةً مخذولةً وناياً يحرُسُ الحنطةَ في المكانِ بديلاً عن ساقيةٍ ويدينِ وثوبٍ شعبيٍّ يقاتِلُ وحدَهُ.

سينتفضُ سيّدٌ من رائحةِ النَّحلِ الغاضبِ ومن بقايا الصهيلِ في قصص البطولاتِ، ويلجأ عارياً إلى الغاباتِ كي يبدأ القولَ من أوَّلِهِ ويعطيني لقبَ مدينةٍ، ويتسلى ببعضِ المراسمِ في وقتٍ سأكونُ فيهِ مشغولةً بالجنازةِ التي لا تنتهي، سأقولُ كلاماً يجرحُ الجميعَ وسأنتهي سريعاً من طقوسي لأخبرَ كلَّ مفتونٍ بدورِهِ في الروايةِ بما كان يجبُ عليه ولم يفعلْه، وسيكونُ الوقتُ قد مرَّ طويلاً وصارَ تاريخاً حين يتذكَّرُ الذي لا ذاكرةَ لهُ، أن قليلاً من الكلامِ كان يعني بقاءَ أغنيةٍ على قيد الشفاه، والولدُ الذي لم يعدْ يغني، فَعَلَ هذا فقطْ لأنّهُ ماتَ قبلَ أن يقولَ لأمِّهِ كم يحبُّها، ومأساة أمِّهِ كانت أنّهُ مات قبلَها بأغنيتين، ولم يعدْ هناكَ مَن يتذكَّر الأغاني ولا العائلة.

سأقولُ كلاماً يجرحُ الناظرين، عمّا قليلٍ حين أفرغُ من دفنِ يديَّ، ونبضتين من قلبي الغارق في الحداد، سأقولُ ما لا تحتمله حضارةُ الآخرين، لن أجعلَ النائمينَ يشعرونَ بالندم، ولا الجيوشَ المرصوصةَ على الرفوفِ تخجلُ من شاراتِها، لن ألومَ حرّاسيَ ولن أغرزَ حسرتي في جِلدِهمْ، فقطْ، سأقولُ كلاماً يجرحُ الناظرينَ كي لا ينظروا فيزيدُ الدمعُ في الكُتُب، سأحفظُ أولادي في ثلاجةٍ من حنينٍ إلى الأبد، ولا أريدُ مَن يصبُّ ماءً على جرحي كي أقيمَ صلاتي وحدي دونَ إمامٍ أو تابعين.

ما سأقولُهُ عمّا قليلٍ سأقولُهُ عمّا قليل، فلا تجرحوا زوجاتكم بالغضبِ الظاهرِ في مكانكم القريبِ من الشاشةِ. الأشياءُ تبدو أعظم حينَ ترويها الإذاعاتُ، فلا تصدقوا موتاي، ولا جرحاي، ولا أراملي ولا اليتامى تحت إبطي، لا تصدقوا انهياري ولا انفجاري، لا تصدقوا لغتي، ولا حيرتي أمامَ الجهات، وصلّوا من أجل أنفسكُم، فقط من أجلِ أنفسِكم.

هذا دمي، نعمْ، هذا دمي

وعمّا قليلٍ سأقولُ كلاماً من دمٍ، فلا تخطئوا التفسيرَ، فنحنُ المُدُنُ يجرحُنا مَن يوقفُ النشيد، فنقولُ كلاماً لا يُحْتَمَل. 

لم يأتِ أحد!

غزةُ وليدةٌ، أنجبتها أمها وحيدةً على الرمل، استعارت أكاليل الغناء من ملائكةٍ مروا هناك مصادفةً، أحاطت جسد الوليدة بالنايات، وغسّلتها بالزيتِ المقدّسِ ومسّدت ذراعيها بالقبلات، مشّطت شعرها القليل بأصابعها، وانتظرت على ممر القوافلِ مليونَ سنةٍ، ولم يأتِ أحد.

غزة طفلة، زوّقت السقف من أجل ميلادها، أحصت الشموع ألف مرة، غطت المائدة المهترئة بأوراق هدايا كي لا تراها صديقاتها، استعارت آنية من جاراتها كي تعجب المعلّمة التي سترافق ابنتها إلى الحفل كما وعدت، غطت الشق في جدار البيت القديم بألوان مدرسية، ارتدت فستانها الذي كانت تنظر إليه في الخزانة كل ثلاث دقائق، فكت جدائلها لتبدو أجمل بشعرها المتطاير، لمّعت حذاءها، ربطت شريطاً أحمر حول الفتحة في جوربها الأبيض، رفعت صوت الموسيقى كي تناسب جو الحفلات، وحدها ظلت هناك، ولم يأتِ أحد.

غزة، تفرك عينيها بالياسمين هذا الصباح، وترتدي قرطاً بلون البحر، وفستاناً للعيد بزركشاتٍ شجرية وملمس مخملي، تتهيأ لزيارة أولادها، أعدت الحلوى ككل عيد، الشاي والقهوة وعصير البرتقال على الطاولة أيضاً، والخبز البيتي بجوار أطباق اللبنة والزيت والزيتون الذي لم يتخلل إلى النهاية بعد، صينية الفاكهة، الشبابيك مفتوحة، والأرض مرشوشة بالعطر والحيطان منمقة بالحنّاء، غزة تنتظر، ولم يأتِ أحد.

غزة تعتني بحديقتها، لا يجوز أن يأتي العاشق ويرى العشب مهروساً تحت أقدام الغرباء، أو يرى وردةً تذوي على غصنها، بللت التراب بماءٍ معطّرٍ بالأدعية، شذبت كل غصنٍ ناشزٍ عن أمّه، رتّبت حجارة السورِ بفنيّةِ امرأة محبة، رتبت قنوات الماء الصغيرة بين الأحواض، نظفت النعناع والحبق ورقة ورقةً، وضعت كومة سكّر في زاوية الحديقة كي تلهي النمل عن جذور النبتات الضعيفة، أعطت الدعسوقات [أم سليمان] الحريّةَ في المكان، الفراشات تعاطفن معها وملأن الهواء بالألوان، نفّضت أعشاش العصافير، وجلست مقابل الباب، ولم يأتِ أحد.

غزة تجهز أغنياتها للعرس، تدعو الجميع، تقطف برتقالاتها بعناية عن الشجر، “اللوج” جاهز للمدعوين، شاشتها البيضاء، ثوبها المطرز بحرير “مونس”، حزامها المرصع بالزغاريد، ورقصتها العجيبة المرافقة ليدين تلوحان في الهواء كمَن يقطف أقماراً، شراب الليمون في القدر الكبيرة وأوراق الليمون اللامعة تسبح على سطحه، الزينة معلقة بشكل قطري، ورود وخراخيش أطفال، علب الملبس المملوءة بأدعية قديمة، كل شيء جاهز، ولم يأتِ أحد.

غزة تهيىءُ تابوتاً من خشب المندلينا

تُعِدُّ جنازتها قرب البحر، تلضمُ الفصول كمسبحةٍ في عنقِها

ودون دعوةٍ يأتي الجميعُ

ولم يتأخر أحد.

  • ينشر هذا النص من ملف “سلام لغزة” الذي صدر ضمن العدد 137 – شتاء 2024 عن مجلة الدراسات الفلسطينية (هنا)
تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *