لن يبحث مؤرّخ أو صحافي بعد اليوم عن مسنّةٍ من جداتنا اللواتي عايشن عام 1948 ليأخذ شهادتها الأولية قبل أن يسترد الله وديعته من خلقه. خلال الأيام المئة التي انقضت من عمر هذه الحرب، لم يفلح العدو إلا في إعادة إنتاج الجريمة التاريخية ذاتها.

سيكون من السهل أن نشعر، أقصد أن نصرخ ونحن نصف الأهوال التي قاساها “قمر يافا إلي مشبعش طوافة”، كما قال المغني المصري علي الحجار، وسيكون من السهل أكثر أن نفهم لماذا يودّع شاب في مقتبل العمر زوجةً وادعةً وأماً رؤوماً وأولاداً مثل سنابل القمح، ويختار طريقاً لا يعود منه إلا وقد أثكل الأم وأرمل الرفيقة وأيتم كل بذار الحقل.

حين سألته: هل كانت النكبة بهذه القسوة؟ أجاب الحاج أبو رائد: “كلا، كانت أخفّ وطأة بكثير”. لِمَ؟ لأنّ الناس انتقلوا من بيتٍ إلى خيمة، ولأن أكثر الضحايا تركوا بلداتهم خوفاً من الموت، لا لأنهم ذاقوه فعلاً، ولأن الناس سمعوا بالمجازر ولم يشاهدوها بأمّ أعينهم حتى اعتادوها، ولأن النساء كنّ يشعلن النار على الحطب لطهو الطعام في أيام البلاد، وانتقلن يشعلنها في خيام اللجوء، ولم يكنّ قد تعرّفن إلى غاز الطهو والميكرويف والكهرباء التي تضيء البيت والحارة، ولأن… سكت الرجل الذي حفرت 70 عاماً في وجهه أخاديد أكثر تداخلاً وازدحاماً من أزقة المخيم الذي يسكن فيه، لكنه لم يبكِ. صحيح أن الرجال جميعهم لا يبكون بتلك السهولة، لكني أدري أنه إذا استغرق أحدهم في التفكير أو الحديث عما عاشه خلال هذه الحرب، لا يجد معزياً إلا البكاء.

سكت الحاج الذي ودع قبل 3 أسابيع زوجته وحفيدته بفارق 3 أيام، ثم عاد إلى الحديث: “بتعرف يا يوسف، كان يجب أن تتوقف عقارب الساعة حد عام النكبة. لم يكن مقبولاً أن نتعايش معها أصلاً. كل ما عشناه خلال الأعوام الـ75 الماضية من أشكال الاستقرار والحياة كان زيفاً. كان ملهاة. جاء الطوفان، ليعيدنا إلى المسار الصحيح. التعايش مع النكبة أسوأ من النكبة ذاتها”.

في اليوم العاشر من الحرب، ومن خلال موظف كبير في الأونروا، وهي المؤسسة الدولية التي كان تشكيلها أول إفرازات نكبتنا الأولى، مرر جيش العدو مطالبته لأكثر من مليون ونصف مليون إنسان بترك منازلهم في شمال وادي غزة الذي سيغدو ساحة قتال كبرى والنزوح إلى جنوب القطاع، قبل أن يبدأ بنفسه خطوات التهجير بإلقاء المنشورات، ثم بإلقاء القذائف.

ولأن النسق الذي كانت وتيرة القصف تسير عليه في بيت حانون أولاً، ثم بيت لاهيا وأحياء الكرامة والمقوسي والمخابرات، يأخذ أسلوب الإبادة الكاملة، وليس تدمير منزل أو حتى مربع سكني في حي، إنما هدم مدن كاملة، بل مناطق برمتها، آثر مئات الآلاف من الناس السلامة، وتركوا خلفهم المال والبيت والذكريات وكل شيء، وهرعوا عبر طريق صلاح الدين (شرق) والرشيد غربي مدينة غزة إلى مدينتي خان يونس ورفح في وسط شارع فرعي ازدحم بمن يحمل الأغطية وما استطاع من مؤونة على ظهره أو حتى والدته المقعدة وابنه المصاب.

تسمّر أبو أديب، حاج نال الدهر من استقامة ظهره، يصرخ في وجوه افترستها الحيرة والخوف: “لوين رايحين، بدكم تنتكبوا كمان مرة، ولكم موتوا هان ولا تردوا عليهم، موتوا تحت سقوف بيوتكم”. الحق أن الرجل الذي جاوز التسعين من العمر كان يصرخ لنفسه ومع نفسه. إيثار سلامة النفس هو خيار فردي خالص؛ فردي إلى الحد الذي نزح فيه آلاف الآباء والأمهات والرجال من دون أبنائهم وزوجاتهم.

في بيتنا مثلاً، دار حديث حاد حول النزوح، وحدّة القصف، والأحزمة النارية، والقذائف العشوائية، وشلال الدم الذي غرق فيه شمال غزة. كل ذلك يدفع الجميع في لحظات معينة إلى الرحيل. كانت لحظات الحيرة تلك أصعب من ساعات القصف الرهيبة.

البقاء لم يكن بطولة، كما أن النزوح لم يكن جبناً. أكثر من تركوا بيوتهم في وقت لاحق انسحبوا منها في صورة الناجي الوحيد من مجزرة عائلية، أو في أحسن الظروف تحت وابل من القصف المدفعي العنيف. وحين أتأمل نفسي وأنا باقٍ في شمال غزة، بل في مخيم جباليا، بعد 100 يومٍ من الموت، وأبحث عن دوافعي، رغم أنه لم يبقَ صديق ولا محب ولا زميل عمل إلا وأدار معي حديثاً مطولاً يقنعني فيه بأن النزوح ليس خيانة للقيم والمبادئ، ورغم أني لست تشي جيفارا إلى الحد الذي يعتقدون، فإنني، ومعي 750 ألفاً في شمال وادي غزة، نفكر اليوم في الدافع والطريقة التي تجاوزنا فيها كل هذا الهول: “والله مش بطولة، بس قناعة بإنو العمر واحد والرب واحد”، قال للميادين أبو خالد عليان. الأكثر حذاقة وقدرة على التحليل كان إبراهيم الزرد: “مثل ما إلهم أهداف في الشمال، إلهم أهداف في الجنوب، رح يخلصوا من عنا ويروحوا للوسطى وخان يونس”. أبو أحمد مطر يعزو بقاؤه إلى دافعٍ آخر: “عناد وجكارة، والله لو قالوا روحوا ع الشمال، كنت رح أطلع ع الجنوب”.

انقضت 48 يوماً من الحرب. كانت العملية البرية قد نشبت أظفارها. ارتكبت مجزرة بشعة في مستشفى المعمداني. اقتُحم مستشفى الشفاء والرنتيسي، وأخرج لاحقاً الإندونيسي والنصر وبيت حانون عن الخدمة. كل ذلك أصبح يعني أن من يصاب، ولو بشظية في طرف قدمه، سينزف حتى الموت، وللحق أيضاً، أصبح المشهد مألوفاً. 

قبل أن يقتحموا الإندونيسي بأيام، كان يمكنك أن تشاهد المئات من الجرحى على الأرض لا يجدون حتى من يقطب جروحهم. ثلاجة الموتى تفيض بجثامين الشهداء الملقاة في كل مكان، فيما يسلم العشرات الروح في قسم الاستقبال من دون أن يلتفت إليهم سوى من ينوح إلى جانبهم.

بعد 7 أيام من الهدنة المؤقتة، تجدد حديث الرحيل ذاته: “يوسف ناويها شهادة إنتا.. فهمني”. قال صديقي عبد الرحمن نصار بعدما استنفد كل ما لديه من أساليب إقناع: “وكل الله يا عبدو.. حارس العمر الأجل”.

أما دعاء سويدان، فكان لا بد من أن يختم إلحاحها المستمر بالنزوح بطريقة أكثر صرامة. بنات حواء لا يسأمن: “طيب فهمني شو الحكمة، لا قادر تكتب، ولا تعيش، إنت مش مقاتل يا يوسف، حنين والأولاد طلعتهن ع رفح وإنتا ضليت! هذا مش تولي يوم الزحف، روح ع الجنوب، احكيلي شو الفكرة؟”. “تياسة يا دعاء .. جحشنة”.

لقد عادت الحرب على شاكلةٍ أكثر جنوناً. تحولت مئات المنازل إلى مقابر؛ مقابر بالمعنى الحرفي للكلمة. لا طواقم إسعاف ولا دفاع مدني في شمال غزة، ولا حتى شبكة اتصال. يُقصف المنزل على رؤوس من فيه. يزحف أقل المصابين وجعاً على الركام ويصل إلى أقرب تجمعٍ للأهالي يطلب النجدة. تهرع عربة يجرها حمار، ومعها المتطوعون الشبان، ينتشلون من ظهر من الشهداء والمصابين، ثم يقرؤون من تبقى تحت الركام: واحد أو 50 شهيداً أو 100، سلام الله وعباده، ويرحلون بحثاً عن فسحة من التراب في الشوارع والأسواق والمنازل، يدفنون فيها من حظي من الموتى بدفء الأرض. 

المقابر مكان خطير. الأموات أيضاً يهددون أمن “إسرائيل”. لقد جرفت دبابات “الدي ناين” أكثر مقابر شمال وادي غزة، وما زالت الطائرات المسيرة تقصف كل من يدخلها. لا يفهم أحد حتى اللحظة الدافع. لذا، تحوّلت البلاد كلها إلى مقبرة. أخيراً، صرنا نخرج من باب البيت، ونهدي ثواب الفاتحة عموماً لكل أرضٍ ستخطوها أقدامنا: “أنتم السابقون ونحن اللاحقون”.

وبعد 65 يوماً من الحرب، أدركنا أن الأصعب لم يكن قد أتى بعد. لقد اجتاحت الدبابات الإسرائيلية أخيراً أكثر مناطق شمال وادي غزة. عملية متزامنة كبرى حشر بفعلها أكثر من نصف مليون إنسان في جيوب ضيقة لا تتجاوز مساحتها بضع مئات من الأمتار، وأطرافها مقطوعة بالنار.

في تلك الأيام التي تحسب ساعاتها بعداد الثواني، وحين أضحت الدبابات على بعد مرمى حجر، ونشرت مشاهد اعتقال وإذلال المئات من الشباب، تعرّفنا إلى المعنى الواقعي لـ”قهر الرجال”. كان والدي يردّد دعاءً واحداً في كلّ سهواته: “وأعوذ بك يا خالقي من غلبة الدين وقهر الرجال”. لقد بات الآلاف على الأرصفة في عراء الله الرهيب. لقد جمع الناس حشائش الأرض ومياه المطر. جرّبنا النزوح في داخل شمال غزة للمرة العاشرة بعد المئة. 

في آخر مرة، جمعني ومن هو “أتيس مني” رصيف في منطقة أبو إسكندر في حي الشيخ رضوان الذي لم تكن دبابات العدو قد وصلته بعد: “شو يا يوس، بشوفك هربت من المخيم”. قال براء وهو يسفر عن ناب أزرق يشف عن ابتسامة شماتة ودودة: “ولك مش هروب اسمه، ناورت بس، هاي مناورة”. “ما في خلاص ههه معك”، قال صديقي السمج، الذي أضحى نديم سهري، ودعاء الفجر: “اللهم لا يعلون علينا.. ولا يصلون إلينا، واجعل ضربتهم فينا خائبة، وضرباتنا فيهم صائبة”.

يوم أمس الأحد، كان المطر يبعث حزنه المعتاد. لا دفء في المخيم، ولا أسقف تحمي من “نشيج المزاريب”. إنه اليوم المئة من عمر الحرب. لم يتغير شيء؛ نهشت آلة القتل أجساد 100 ألف شهيد وجريح ومفقود، بمعدل 1000 ضحية يومياً. تثاءب الحزن في هذه البلاد. وحدهما أبو رائد وأبو الأديب من يستطيعان إلى اليوم الكلام بلسان الشهداء والأجيال التي لم تولد بعد بأن النكبة في حالتنا، ليست في أن تفعل، أن تقاوم، أو حتى أن تتظاهر بأنك تقاوم، إنما النكبة في أن تصمت: “وحدهم الأموات يشهدون نهاية الحرب. هذه أرض الرباط إلى يوم القيامة”. الشهيد فتحي الشقاقي.

  • تم نشرها بموافقة الكاتب، ونشرت أولا في موقع الميادين (هنا)
 

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *