أكتبُ لكَ اليوم رسالةً في تاريخ ميلادكَ والذي كان من المُفترض أن تتم فيه الثّلاثين من عُمرك، ثلاثة عُقودٍ من النّور الذي طلع على وجه هذه الدّنيا، لكنّك لستَ هُنا.
أكتبُ لكَ رسالة لن تقرأها أبدًا، ولكنني أبعثُ بها من روحي إلى روحكَ علّك تشعرُ بي، وبكلّ كلمةٍ أدوّنها وقلبي يتكوّر على نفسه وينكمش من الألم، ومن الغياب.

قمري يا قمري الشّهيد، يا أحلى من مرّ في عُمري، ولم يغادرني رغم الرّحيل، يا حبًّا غمر قلبي حتّى ارتوى، ويا ذكرى تعيشُ في خاطري كأنّها كلّ حاضري ولا نسيان.

مرّ على استشهادك خمسة شهور، ارتقيتَ يوم السّابع من أكتوبر المجيد قبل أن تُكمل عامكَ الثّلاثين وأنت بعد شابًّا في عشرينياتك، تركتَ لي منكَ جبالًا من الذّكريات تثبّت رُوحي وتحميها من السّقوط، وقلعةً من الحبّ كانت زواجنا، ولكن أجمل ما تركتَ لي هي ابنتنا “أشرقت”، التي أشرقت على رُوحَينا كالشّمس من بعد ليلٍ طويل، وأضاءت بابتسامتها قلبينا، وصارت سكّرة بيتنا وحُلوة أيّامنا.

كنّا عائلة صغيرةً دافئة، وكأننا في داخل ألبوم للصور قديم، كان بيتُنا بتفاصيله يُشبهنا ويشبه سعادتنا، رتّبناه كما نحبّ، وابنتنا صارت وردته، تركضُ في البيت من ذراعيّ إلى ذراعيكَ تضحك ونضحكُ معها، كنّا قد خططنا لكلّ شيء في حياتنا، ورسمنا أحلامًا بألوان سماء الشّتاء قبل الغروب، وتعاهدنا أن نُكمل مشوارنا معًا [على الحُلوة والمرّة]، لا زلتُ أعجزُ عن إقناع نفسي أنّ هذا كلّه انتهى، وأنّ بيتنا بكلّ ألوانه قد قصفه الاحتلال، وصوتكَ بكلّ دفئه قد قتله الاحتلال، وأنّ عائلتنا خسرت عمودها الذي تستند إليه، وأنني وأشرقت مجبرتان الآن على الاستمرار من دونك، وفي غيابك الثّقيل الذي يدهسنا ويفتت أرواحنا.

عشتُ معكَ ثلاثة أعوامٍ كانت العوض من الله تعالى على كلّ صعب في حياتي، وهي الزّاد لما تبقّى من عُمري، وستظلّ هي حكايتي لابنتنا عندما تسألني عنكَ. أشرقت تكبرُ كلّ يوم أكثر، لن تصدق كم كبرت هذه الصّغيرة، وفي كلّ يومٍ تمسك بالهاتف وتفتح صورًا لكَ وتقلّبها، وتبتسم ابتسامةً جميلة، وتنادي عليكَ بصوتها الرّقيق: “بابا..بابا”، أجبها يا أباها وأجبني، نحنُ اللتان ننادي عليكَ فالحياةُ هنا تدورُ بنا سريعًا من دونك، أجب ابتسامتها النّاعمة وأجب دموعي حينما تنسكب عليها.

يا أباها ألا تذكرُ كيف ضحكتَ عندما خطت أشرقت خطواتها الأولى؟ أنا لم أنسَ، كنتَ سعيدًا جدًّا وناديتَ عليها وأنت تقول: “يلا يا بابا كمان خطوة يلا يا بابا شوية شوية! أيوا هيك يا بابا!”، ألا تذكرُ كيف كنتَ تحتضنها وتقول لها: “وكتيش رح تكبري؟ وكتيش شعرك رح يطول؟ وكتيش يا بابا رح تصيري تناديني باسمي محمّد؟”، فقد كنتَ تغار أنّها نادتني باسمي قبل اسمكَ..ربّما لأنّها ستناديكَ طوال عُمرها، وسيظلّ هذا النّداء دون إجابة.

ما يهوّن على قلبي أنّكَ نلتَ ما كنتَ تتمناه وتدعو الله به، استشهدتَ مُقبلًا بطلًا في سبيل ربّنا وديننا وبلادنا، حميتنا بروحكَ يا روح الرّوح، وتركتَ لي ولابنتك عزًّا وكرامة أننا أهلُ شهيدٍ مُجاهد وفي شفاعته بإذن الله.

والله ما عرفتكَ إلّا صالحًا مُصلحًا أثركَ طيّب أينما حللت، يحبّك كلّ من عرفكَ ولا تحملُ في قلبكَ إلّا الخير، كنتَ نعم السّند والرّفيق في سفر الحياة، وهي دنيا وتمضي ونلتقي بعدها، حيث لا فراق ولا غياب ولا حزن في جنان النّعيم التي صبرنا لأجلها.

وأدعو من كلّ قلبي أن يعطيني الله القوّة لتربية أشرقت أحسن تربية، وأن تكون من حفظة كتاب الله كما حلمنا أنا وأنت، وأن تكونَ شروقًا يبزغ لي من بين هذا الرّكام وينير عالمي.

مع السّلامة يا مسك فايح..مع السّلامة يا قمري الشّهيد..ودّعتكَ والدّمع بي.
السّابع من أكتوبر 2024 – الثّالث من آذار 2024

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *