في العاشر من شهر أيلول لعام 2023 حظيتُ بفرصة أن يصبح لي قطعة من قلبي في الشطر الثاني من البلاد..في غزّة.

من أين أسرد لكم؟ تعرفت على إلينا في برنامج تدريبي للإعلاميين في دولة الإمارات، أذكُر لحظة تعارفنا جيّدًا:

  • مرحبًا.. يارا من فلسطين – جنين
  • أهلًا.. إلينا من فلسطين- غزة
    غزّة..كانت المرة الأولى التي أحظى بها بمعرفة شخص من هناك، رغم أن المسافة بين جنين وغزة المحاصرة والمعزولة عن كلّ فلسطين منذ 17 سنة هي كيلومترات تقطع بالسيارة، منذ اللحظة الأولى كانت الألفة تغمُرني بوجودها، وشعرتُ أنّ عليّ أن أردّ الجميل لكلِّ ذرةِ ترابٍ في غزَّة من خلال إلينا.

في اليوم الثاني للتدريب ناديتُها ممازحة “بنت بلادي”، ولم أكن أدري أنَّ بنتَ البلاد هذه ستصبح خير ما جادت به صدف الدنيا، وأنني سأرى البحر للمرة الأولى في حياتي برفقتها! أذكر تلك اللحظة جيّدًا، وأذكر أنَّ إلينا وثقّتها لي بهاتفها، أنا التي حُرِمَت من البحر الذي وراء الجدار منذ أن أبصرت عيني هذه الدنيا، أراه مع ابنة غزة المحاصرة منذ ولادتها!
كنّا نمضي كل الأوقات معًا حتى أنَّ أصدقاءنا اعتادوا وجودنا سويًّا، إن غابت يارا تُسأل عنها إلينا وإن غابت إلينا تُسأل عنها يارا، عشنا أيامًا لن ننساها ما حيينا.

يومٌ ليس كبقية الأيام

بعد أن قضينا 3 أسابيع معًا، حانت لحظة الوداع، وتحديدًا في الرابعة فجرًا، بكينا البكاء كله، وجَرَت مآقينا بدمع الحسرة على بلادنا التي لن نجتمع بها،
عزّ علينا أننا من بلاد واحدة ولكن نسافر إلى بلاد أخرى لنصل المكان نفسه الذي يفصل بيننا بضعة ساعات بالسيارة، وجدار فصل يوحي لك بأبديته، وبالمناسبة ما الأبد؟

بدأت الحرب وبدأت القصة في فصل جديد

خلال الحرب عرفتها عن كثب بمكالماتنا، وفي كلّ مرة تمكنّا فيها من إكمال الحديث قبل أن يُباغتنا صوت الصاروخ، فتختفي الشبكة ويذهب الصوت، تيّقنت بعد نصف عام أنّ لا شيء يقرب النفوس أكثر من مشاركة الألم، وأنَّ هذه الحرب قربتنا كثيرًا من بعضنا، فأخاف عليها كثيرًا، دائمًا أحاول إقناع نفسي أنَّها لا تشعر بالبرد ولا بالجوع، أما هي فتمتلك من اليقين ما يكفي العالم كله، دائمًا تطمئنني وتخبرني ألا أخاف.
إن لم أخف عليكِ الآن متى يجب أن أخاف!
أذكُر الأيام التي مرت بلا خبر عنها، رحّبت بي شبكات الاتصالات أكثر من ألف مرة، كنت ألعن صوت الترحيب هذا! شهر كامل بلا رسالة ولا كلمة منها، وعندما عادت الاتصالات أخبرتني أنَّها كانت تفكر كلَّ يوم: “يا ترى يارا شو عاملة، أكيد فكرت إنِّي استشهدت”..

لو أنَّ اللغة تتسع لأكتب عن غزّة وإلينا

أحبُّ مكالماتنا..نضحك كثيرًا ونستذكر أيامنا في السفر، وتخبرني دائمًا أنّ وجودي يهوّن عليها الكثير، كيف أشرح لها أنّنا في فلسطين نودُّ أن نُقدِّم العالم لكل من يتنفس هواء غزة؟ وأنَّ هذه المواساة هي كل ما أملكه في عالم أبى أن يقدِّم لهم شيئًا!

وأتساءل الآن: كيف عليّ أن أختزل نصف عام من هذه الحرب في سطور؟ كيف سأكتب عن مكانتها في قلبي، كيف ستلخِّص اللغة كل المشاعر؟ ما هي الكلمة التي تصف شعور “قطع الاتصال، الخوف، الشوق، البرد، الموت المحيط من كل جانب، القهر، الخذلان، العجز”!
لو أنَّ اللغة تتسع لتصف..لكنها أَبَت، لو كان كلّ كلام يُقال ويُكتَب لفعلت، لكنّه أكثر..

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *