على رقعة صغيرة من الأرض، في جنوب غرب قارة آسيا، في الجزء الجنوبي للساحل الشرقي للأبيض المتوسط، وبين مدن محاذية لا تسمع ولا ترى، خيّم الظلم على الجزء الجنوبي من هذه البلاد، ظلمٌ أكثر عتمة وثقلاً من أي شيء عرفه العالم من قبل، جرى هنا على امتداد أسبوعين متتاليين، وعلى نحو منهجي، حبس أكثر من مليوني ونصف إنسان، وقتلهم، وحدث هذا ضمن مساحة 360 كم مربع، واستهدف إنهاء الوجود الفلسطيني فيه ولم يفعل أحد شيئاً لإيقاف ذلك، ولن يفعل أحد شيئاً.

يوم من أحد أيام أكتوبر، آخر الصيف، نخطط أنا وعدد من صديقاتي لاستئجار شاليه من بداية صيف هذا العام، ومنعتنا ظروف عمل كل منا من تنفيذ المخطط في بداية شهور الصيف، وأصبح تنفيذه ممكناً في أكتوبر.

السابع من أكتوبر، اليوم الموعود لأخذ جرعات من أشعة الشمس وإنتاج هرمون دال، تحضير الكثير من الأمور، كالملابس الخاصة بالسباحة، الاتفاق على قائمة لتسوقها وتجهيز الطعام. قرّرت النوم في منزل صديقتي المقرّبة، لقرب منزلها من شارع البحر ولقرارنا سلوك الطريق معاً وبشكل مباشر. قمنا بتصنيف ما تسوقناه في أكياس منفصلة، لمعاناتنا من هوس التصنيف والترتيب، ولم ننته من ذلك حتى ساعة متأخرة من الليل.

رقصت هي على موسيقى أغنية Substance، وشاهدتها أنا بضحكات متواصلة، وضحكنا لمحاولة التقاطي ڤيديوهات مصورة لحركاتها التي تضحكني دائماً، ونامت كل منّا ونحن ننتظر الصباح المرتقب. في السادسة والنصف صباحاً تقتحم أخت صديقتي الغرفة لتصرخ بوجهنا: “قوموا قوموا قامت القيامة”. نظرنا نظرة بلهاء لعدم فهمنا ما يجري -ليس هذا ما تخيلناه لبداية هذا الصباح بالذات- ثم أي قيامة ممكن أن تقوم يوم السبت؟

رافق اقتحامها الكثير من الرشقات الصاروخية التي لم نشهد مثلها من قبل، بعد إدراكنا فشل مخططنا، أصرّت أن نتشارك وجبة الفطور التي كان في مخيلتنا تناولها تحت أشعة شمس الصباح، وتناولناها تحت رشقات الصواريخ “بين طالع ونازل”، وجاء أخي بعدها فوراً ليقلّني للمنزل قبل بدء المعركة.

عدت للمنزل وبت أقنع نفسي أن الأمر لا يعدو مجرّد تصعيد من التصعيدات المتتالية المعتادين عليها خلال السنة، إلا أن أمراً ما جعل هذه المرة مختلفة عما سبقها.

الحرب، تلك الكلمة الكبيرة، كم كانت ترعبنا الحرب في البداية، أقصد العدوان الأول والثاني والثالث والرابع، والتصعيدات فيما بينها، كم أخذت من إنسانيتنا، كم جعلت قتل الآخر سهلاً ومرغوباً به، بل، وفي أحيانٍ كثيرة، واجباً.

فجر الثالث عشر من أكتوبر، على غير العادة، قرّرت النوم مع إخوتي وأقاربي تحت سقف نفس الغرفة، لعله حدسي الذي لم يخطئ ولو لمرة، فقد شعرت أن خطراً ما آتٍ. حاولت كعادتي أن ألقي بعض النكات للتخفيف من هول هذه الليلة، ولم يسعفني دعاء جدتي، فقد كانت جدتي في عدوان 2008 وعدوان 2012، وكلّما دّبت آلة الرعب الخوف في قلوبنا، تردّد بصوت مسموع يمسح على قلبي أنا وإخوتي: “يا حامي البيت تحمي البيت واللي فيه”. توفيت جدتي في العام 2013، فورثت صوتها والدعاء، وأصبح أول ما ينطق به لساني: “يا حامي البيت تحمي كل البيوت واللي فيها”.

كانت قد بدأت الليلة السابقة بقصف عشوائي في جميع أنحاء القطاع، وكان الضرب يتركز في منطقة الكرامة في شمال القطاع، حاولت الاتصال بإحدى بنات عمومتي التي تسكن في تلك المنطقة، وبعد منتصف الليل استطاعت أن ترد لي برسالة قصيرة مضمونها: “الوضع موت موت، من شوي طلّعونا الصليب الأحمر”.

في الثانية بعد منتصف الليل، انتشرت رسالة عن طريق الأونروا والصليب الأحمر، تطلب فيها قوات الاحتلال من سكان غزة، وأقصد هنا شمال وادي غزة، بالاتجاه فوراً، وخلال أربع وعشرين ساعة، إلى محافظات جنوب الوادي، ولأول مرة بدت هذه الرسالة أمراً جدياً وليس من قبيل الشائعات التي ينشرها الاحتلال لبثّ الخوف والرعب في قلوب الغزيين.

لم أنتظر أن يشق الصباح ضوءه في السماء. انطلقت نحو الغرفة لأجمع ما أستطيع جمعه، جلست على السرير وتأملت الخزانة، فأدركت أن ما من شيء يمكن حمله في حقيبة وما من حقيبة تسع ذكرياتي.

قسمت العائلة بين أفراد ركبوا الإسعاف وأشخاص آخرين ركبوا سيارة والدي وسيارة أخرى. بكت أختي الصغيرة لخوفها أن يقصف أحدنا ويبقى الآخر، فسقطت دمعة واحدة من عيني وجفّ الدمع مرة أخرى. المسافة من البيت لجنوب الوادي ليست بالطويلة، قد تستغرق الرحلة نصف ساعة على الأكثر إلا أن الرعب جعل هذه النصف ساعة تتضاعف مرةً تلو أخرى.

في اليوم السابع عشر للحرب، ولشعور مني، كما الكثيرين، وقد يكون كاذبا،ً أنني لن أكمل أيام الحرب الباقية إن استمرت، فسوف أعلن لكم إن كان يحق لي الكلام عن معظم أبناء جيلي الذين شهدوا المجزرة، وإنني أقصد هنا كل أيام حياتنا أننا لا نشعر بشيء، لا بالحزن ولا بالفرح، لا في أيام الحرب ولا في أيام السلم، شعورياً لا أحد منّا حي، وإننا ننتظر موتنا الجسدي الذي أتمنى أن يكون قريباً، فلن نقوى على تكرار هذا الموت.

  • نُشرت أولا في موقع رصيف 22 وتم نقلها هنا بعد موافقة الكاتبة (هنا)

تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *