ليس سهلاً على الإطلاق أن تجد في شوارع غزة؛ كل ما فيها من معالم حضارية أو تراثية قد تم سحقها ورقص على خرابها الشيطان مع الجنود فوق أشلاء الصغار والنساء على صوت أنين الثكالى والأرامل، وليس سهلا على الإطلاق أن تجد طبق طعام كامل في غزة منذ بداية (7 أكتوبر).

ما زال في أذني القصة الوحيدة التي حفظتها بصوت جدتي (كل يوم خس وجزر!) على لسان الأرنب لأمه، لقد جعلنا جيش الاحتلال نعيش هذه التجربة بحذافيرها تماماً، ففي مدينة غزة منذ منتصف أكتوبر لم نجد في سوق الخضار خضاراً ولا في سوق اللحوم لحوماً، ولم نجد حتى في أحلام اليقظة والنوم نوعاً من أنواع الفاكهة سوى مؤخرا بعد مئة يوم من الحرب وبكميات قليلة وتسعيرة باهظة الثمن نجد بعض الحمضيات مثل البرتقال المقطوف تحت القصف، فلا شك في أن حديث الصغار محشواً بنكهة كل طعام هذه الأرض فمنذ يومين وجد أطفالي بائعاً على باب مركز الإيواء يبيع (الخبيزة*) فهللوا وجاؤوا مسرعين وأخيراً وجدنا خبيزة مع أنهم سابقاً لم يكن منهم إطلاقاً من يفضل طعام الجدات الذي انتقل إلينا عبر الأجيال العريقة والأكلات التراثية.

لم يقتصر الأمر على ذلك فقط، بل إن الطعام المتوفر فقط من بداية الشهر الأول من الحرب وصولاً لمنتصف شهر يناير حتى (الأرز والعدس) حتى أن الأرز لا يعتمد في طهيه على مكونات حيوية تمد الإنسان بالطاقة اللازمة، بينما يتم طهيه فقط من خلال نكهة البهارات؛ وهكذا يومياً صار الأرز الوجبة الغذائية الرئيسة والوحيدة أو البديل عنها شوربة العدس، ومع تقادم الأيام واستمرار الحرب بدأت فرص وجود العدس أو الأرز تتهاوى تدريجياً، فحبوب العدس اختفت تماماً والمجروش منها نجده بكميات شحيحة، وهكذا ربما لو استمرت الحرب أكثر لن نجد عدساً أو أرزاً في الأيام القليلة المقبلة.

عند التجول بين الباعة المتفرقين في سوق الحرب الذي فرض نفسه على غزة بعد أن صار من أمام مجمع الشفاء الطبي، ستجد أن غالبية الباعة يبيعون البهارات والملح والفلفل الأسود وعدداً آخر من المنكهات للطعام، فإن سلقنا الماء مع هذه البهارات لوجدنا نكهة مميزة للماء قد تُحوله لسد غور احتياجات أجسام الأطفال من المكونات اللازمة للبناء والطاقة؛ وهكذا صارت نكهة البهارات نجاة للصغار وأحلامهم الغزيرة بالبرجر والدجاج والشاورما مع فارق أن الوجبة الغذائية الأكثر ضرراً وخطراً أمام تحذيرات الصحة العالمية (الأندومي) منذ السابع من أكتوبر الماضي صارت وجبة رئيسية ومتوفرة بكثرة، ولم نعد نجد سواها، وصارت الأمهات تطهوها بنفسها للصغار وحتى في كثير من الأحيان مع عدم وجود غاز الطهي وندرة الحطب تضطر بعض الأمهات أن تطعمها للصغار نيئة دون طهي.

هذا التحول الخطير يعطي انطباعاً بأن الجنة صارت هدفاً للصغار ليشربوا فيها من نهر اللبن والعسل وليأكلوا فيها ما يشتهون، فيحسد الأطفال الأحياء منهم أولئك الصغار الشهداء الذين ارتقوا ويتنعمون الآن في كنف الله وجواره أمام ظلم وجبروت العالم.

  • الخبيزة: نبتة برية ذات رائحة مميزة وطعم عريق وورق يشبه شكل الجرس، وصلت عبر تداول الأجيال الفلسطينية، وتُطْبَخ بأكثر من طريقة أبرزها مع عجين الطحين المفتول.
تشارك:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *